الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحكيم الزاوي: التصوف في تاريخ المغرب.. دلالة الرمز والفعل

عبد الحكيم الزاوي: التصوف في تاريخ المغرب.. دلالة الرمز والفعل عبد الحكيم الزاوي
  يجذب التصوف اليوم اهتمام شريحة واسعة من الباحثين في التاريخ والعلوم الإنسانية القريبة، لا يتأتى فهم واستيعاب هذا الاهتمام من دون استحضار ما يسميه البعض ب"التميز  الروحي المغربي" أو "العبقرية الروحية". والقصد بذلك، رصيد الممارسات الروحية التي انصهرت بشكل حميمي مع تفاصيل المعيش المغربي. يظهر البلد كما لو أنه مملكة للأولياء مُتفردا عن حياة المشرق. 
  واليوم، يتم استثمار هذا التميز الروحي لخلق ما صار ينعت ب"الأمن الروحي"، بما هو إرث غني ومتعدد ومركب، يسمو فوق كل أشكال التطرف والانغلاق، ويؤسس لثقافة الاعتدال التي تأسس عليها كيمياء المغاربة في التاريخ. كيف تُلتقط اليوم عودة الباحثين في حقل التاريخ والعلوم الانسانية القريبة إلى إعادة استنطاق بنية الخطاب الصوفي المغربي بتشكلاته الأدبية والرمزية؟ كيف يمكن استنطاق المريدين الأوائل في لَجْم سلوكيات ما بعد الحداثة؟ كيف يمكن نقل التجربة الصوفية من عُمق السياق نحو قوة الرمز والدلالة؟ لماذا يظهر التصوف دائما بديلا لتصحر السياسة وبرغمايتها المقيتة؟ كيف نُفسر العلاقة بين انتشار التصوف الطرقي مع تحولات الحاضرة المغربية؟ هل هناك إذن فرق بين تصوف البادية وتصوف المدينة؟ هل التصوف مؤسس للتجاذب المستمر بين العقلانية والمحافظة، بين التجديد والأصالة، بين التدين العالِم والتدين الشعبي، ومن تم قد نزج به طرفا في معادلة تعثر المشروع المجتمعي؟
   على العموم، كانت لحظات القرن السادس عشر الميلادي بالمغرب فارقة في تبلور الإهتمام الأجنبي بالتصوف المغربي. منشأ ذلك قوة حضوره ضمن شبكات الثالوث الفاعل في مسرى التاريخ الحديث، نستحضر هنا فقط على سبيل الايجاز والنمذجة كل من هنري تيراس وميشو بليير وجورج دراغ وبول أودينو وغيرهم...وإذا ما حاولنا تكثيف هذه الاهتمامات، يمكن أن نُقر بأن استوغرافيا المقدس المغربي قد أفرزت أطروحتين أساسيتين جسدت نوعا التناظر التاريخي حول المُنجز الصوفي المغربي:
1 – أطروحة الإندماج التي دافع عنها كل من ميشو بليير وهنري تيراس وجورج دراغ. تنتصر هذه الأطروحة إلى أن تاريخ المغرب يكاد يختزل في تاريخ الزوايا. من يقرأ الأمر من هذه الخلفية سيجد أن نشأة الدول الكبرى بالمغرب اقترنت بالأضرحة والماربوتيزم Maraboutisme، بل إن أطروحة الإندماج التي دافع عنها هؤلاء لم تر أي إمكانية للوصول إلى السلطة بدون المرور من الزاوية الدينية، فوراء كل زاوية هناك مُدعي للعرش.
2- أطروحة التمايز التي نافح عنها بول أودينو التي تعتبر أن نشوء الزاوية يتم بفعل التناقض الحاصل بين المجتمع والسلطة، ومن تم تظهر الزاوية كتجربة بديلة عن تحلل السدى الاجتماعي وتفسخ السلطة، مثل ما توصل إليه الباحث محمد ضريف في كتابه مؤسسة السلطان الشريف.
  بهذا، ارتهن التصوف المغربي بقيم الصلاح والخير والإحسان والتكافل تارة، وتارة بالنزوع نحو النفوذ السياسي في اللحظات التي كانت تشهد فراغا سياسيا. تحيل القراءة السريعة لتاريخانية التجربة الصوفية المغربية في علاقتها بالمخزن السياسي منذ بدايات تشكلها إلى التأكيد على ثنائية الشد والجذب، المد والجزر، التعايش والتصادم... وهذه الثنائية واحدة من إواليات التجربة التاريخية المغربية بالأمس كما اليوم، لكن بتصور مختلف.
   هناك تفصيل أساس تُفصح عنه تجربة المقدس المغربي، يكاد يمثل تماثلا بارزا ضمن هذه التجربة التاريخية، مؤداه أن التصوف بما هو خطاب وممارسة وتطلع سياسي ينتعش في لحظات الأزمة، أَو ليس مغرب الأزمات العميقة في القرن السادس عشر هو من كان وراء بروز الحركات الدينية الطامحة إلى العرش؟ أَوَ ليست لحظة الاصطدام مع الآخر الحداثي خلال القرن التاسع عشر هي من كانت وراء تبلور أزمة الضمير الروحي، وانتعاش الخطاب الصوفي الرافض للمدنية الأروبية؟ بنفس المقياس، العودة إلى الروحي اليوم، والتمسك بترائبه، تتساوق مع تحلل السدى الاجتماعي، وتصحر الفعل السياسي، واستبعاد الفكر العقلاني، تحت تأثير ضربات عولمة الحياة الانسانية...
  هكذا يظهر التصوف لصيقا بمسارات الأزمة، في اللحظة التي تبحث الذات البشرية إلى أن تتحصن من جاذبية المجون والظلال، من الفتنة والاغواء، من الغريزة والشهوة، إنه كما يسميه عُلماء النفس أشبه بعملية الكتارسيس، محاولة التطهر والنقاء، والعودة بالنفس إلى صورتها الأولى، وفي تصوري هو ما يجعل عملية تفكيك بنية الخطاب الصوفي مرتهنة بالحاجة إلى تفعيل الدرس التاريخي واللساني والسيميائي والأنثربولوجي ضمن رؤية منهجية متكاملة.
   يجب أن ننطلق من فرضية أن الكرامة الصوفية تجسيد لولادة طبيعية وشرعية لمجموع تلك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاركها المريدون الأوائل من أجل التغيير، إنها تأتي في سياق الإجابة عن نوازل تاريخية تهم الفرد والجماعة، رغم طابعها التخييلي الذي يُبعدها أحيانا عن التصديق بحكم انطلاقا من معين التصوف الشعبي، أو ارتباطها بالمخيال الاجتماعي الشعبي الغارق في الميتولوجيا. لكن وجب التنبيه إلى أن التجربة الصوفية المغربية اهتمت بتحرير الفرد، أكثر مما اهتمت بتحرير المجتمع والسلطة، تجربة تضع الفرد منسلخا عن واقعه، ومنغلقا على ذاته، هو ما جعلها لا تُحاسب الظلم والاستبداد، ولا تتشابك مع القهر الاجتماعي والاقتصادي، بقدر ما كانت تخلق انتصارا وهميا على كل مظاهر القسوة الواقعية، لهذا السبب ظلت انتصاراتها محصورة في دائرة اللازمان، مرجئة الحساب والنقد إلى يوم البعث. وبقدر ما يقرأ البعض أن التصوف مجرد سلوكيات دينية يمارسها المريدون، تُعبر عن رفض للواقع ومحاولة للتعالي عنه، فإنه يحبل من جهة ثانية بالطموحات السياسية التي يعبر عنها شيوخ الزوايا من حين لآخر حسب تموجات الواقع السياسي. هذه القضية بالذات، لحظة الانتقال من مؤسسة دينية مكلفة بأدوار روحية واجتماعية إلى مؤسسة ذات طموحات سياسية تنازع المخزن شرعيته تظل مثيرة للانتباه في الزمن التاريخي المغربي، وعلامة فارقة في تاريخ التصوف المغربي، حيث الزوايا تتزيا بعباءة السياسة، والسياسة تتزيا بعباءة المقدس. يتعلق الأمر ، بتوازن هش لكنة فاعل في مسار التاريخ ومحرك لعجلاته.
   يُبدي المريد داخل نسق الزاوية استعدادا خاصا للتعالي عن الحياة، واستعدادا للانصهار في الذات الالهية، عليه أن يُظهر جدية فائقة في تعلم الطقوس الروحية، أن يجعل جسده خاضعا لجدبات وشطحات الحضرة، إنه انتقال من رفض للواقع بسلطويته الفجة، نحو سلطوية روحية جديدة، تضع الشيخ متعاليا عن باقي الأجساد الأخرى، وفق ما يُؤسس له الفيلسوف الألماني ارنست كونترفيتش في كتابه المرجعي جسدا الملك The King of two Badies، إنه هروب من عالم مفروض إلى عالم متخيل، من أجل خلق نوع من الموازنة بين الواقع والمخيل. يشدد بعض الباحثين على أن مظاهر التصوف كالزهد والإفراط في الاختلاء بالنفس، والابتعاد عن الخلق تمثل تجسيدا لألوان التعذيب النفسي على الذات، والتلذذ به عن طريق إكراه النفس على الجوع والمكابدة حيث تصبو الطرقية إلى البحث عن معنى للوجود، إلى إعادة الأمور في سابق عهدها، عبر التعالي عن الحياة اليومية، والانصراف نحو ما هو روحي طمعا في الاتحاد بالذات الالهية. يُفيد الزهد رفض الوضع القائم، وعدم مجاراة العامة في نوازلهم. إنه سلوك فردي يختلف من زهد النخب العالمة إلى زهد العوام، بحثا عن البديل والخلاص الدنيوي، هو يحيل داخل نسق العلاقات الدينية على هيرارشية بين الشيخ والمريد، حيث المشيخة تتطلب موهبة، وقدرة فائقة على التدبير، وكاريزما خاصة، وكرامات تشفع أمام الناس، إضافة إلى تكوين عميق في علوم الدين، وهو ما يجعل الشيخ يحوز سلطة مغلفة بالمعرفة، وبالسلطة أيضا. تبادلت بعض الزوايا المصالح والمنافع مع المخزن وِفق مبدأ رابح رابح، ولعل الملاحظة المثيرة للانتباه هي ارتماء بعض الشيء في حضن الحماية، فماذا يعني ذلك، إن كان لا يعني سوى تشبيك الدين ضمن الاقتصاد من أجل خدمة مصالح السياسة.
   والحال، تبلور الطرقية ضمن المشهد التاريخي المغربي في حقيقته تجسيد لهزة وجدانية عنيفة تجاه الواقع المادي، وتمثيل لرد فعل مجتمعي من صيرورة التحولات الجارفة. وبتوصيف الباحث المغربي عبد الجليل حليم رد فعل إزاء الأنوميا/ حالة عدم الاستقرار والقلق من التحولات المفاجئة التي تعصف بالرصيد الأخلاقي للمجتمع، وبالتالي يعدو اعتناق الطرقية من طرف بسطاء المجتمع ومُهمشيه تعبير عن رفض التسلط والقمع والقهر من ناحية، وقبوله في شبكة النسق الديني من ناحية ثانية، وتلك أحد مفارقات السلوك الصوفي بمغرب الأمس.
  تفصح التجربة التاريخية عن تصادم بين الفقه والتصوف، تتأرجح بين المهادنة والمغازلة حينا، بين الحوار والعنف حينا آخر. فالفقيه كان ينظر إلى المتصوف على أنه مارق عن الدين، خارج عن جادة الصواب، قائد للهلاك البشري، بينما المتصوف ظل يطعن في سلطة الفقيه، ويرميه بالانحراف، وبالارتماء في حضن السياسة وتلاعباتها. ونفس المعادلة تنسحب على علاقة المتصوف بالسياسي، فقد أوثر عن الغزالي قول في هذا السياق:"...أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك".
  ما يشد الانتباه في الخطاب المنقبي هو إيغاله في لعبة الترميز، بل الترميز يكاد يكون هو أحد مرتكزات نظام التفكير الصوفي وبنيته الدلالية، فبدون توظيف الرمز تبدو المنقبة عبارة عن نص ركيك، فارغ من أي مغزى تاريخي، وغير منسجم مع واقعه التاريخي، وهو ما يفرض التسلح بأدوات الأنثربولوجيا الرمزية، التي بإمكانها أن تنأى بالباحث عن تلك القراءات العُصابية أو حتى التبجيلية، وتُقوِّل الكرامة التي هي بالنهاية إفراز لواقع اقتصادي وجماعي وسياسي ما لم تقله، أو تحملها ما لم تتحمله على النحو الذي يقتؤحه الباحث محمد مفتاح، في مقالة مهمة تحت عنوان: الواقع والعالم الممكن في المناقب الصوفية.
عليه، دراسة مبحث المناقب يتضمن الاحالة على مجال ذهني واسع ومُركب، جِماع سلوك وتفكير وممارسة تنهض على الفعل الخارق لنواميس الكون وقوانين الطبيعة، تتغدى على فجوة الأزمات وأشكال التسلط والقهر والتدهور الاقتصادي والأوبئة، باختصار المناقب بما هو خطاب روحي خطاب أزمات، وجزء من مبحث تاريخ العقليات والذهنيات الذي لا يزال في طور التشكل أكاديميا.
 
عبد الحكيم الزاوي، باحث وناقد

بيبليوغرافيا:
1 – التوفيق أحمد، التصوف بالمغرب، معلمة المغرب، الجزء السابع، ص 2391-2396.
2 – حجي محمد، الزاوية، معلمة المغرب، الجزء 14، ص 4602.
3 – الزاهي نور الدين، الزاوية والحزب: الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي، افريقيا الشرق، 2001
4 – عبد الجليل حليم، الزاوية والتصوف/ عودة الروحي أم النزوع إلى النفوذ السياسي، ضمن مجلة المناهل، الزوايا في المغرب، الجزء الأول، عدد 80-81، فبراير 2007، ص 9- 21.
5 – عبد لله عتو، التصوف المغربي/ من عمق السياق إلى قوة الرمز، ضمن مجلة المناهل، الزوايا في المغرب، الجزء الأول، عدد 80-81، فبراير 2007 ص 291- 311.
6 – Berque J, Uléma, Fondateurs, insurges du Maghreb 18 siècle, édition
Sindibab, 1982.
7 – Hammoudi A, Maitres et disciples, Maisonneuve et Larose, édition Toubkal, 2001.
8 – Wach J, Sociologie de la religion , édition Payot, 1955.