وضعت دولة جنوب إفريقيا في 29 دجنبر 2023 طلبا لدى محكمة العدل الدولية بلاهاي لرفع دعوى ضد دولة إسرائيل بشأن انتهاك هذه الأخيرة للالتزامات التي يتعين عليها احترامها والوفاء بها إزاء الفلسطينيين في قطاع عزة، وأرفقت طلبها بتقديم ملتمس للمحكمة يرمي إلى إصدارها قرارا بشأن التدابير الاحترازية الأولية والمؤقتة والضرورية الواجب اتخاذها من أجل حماية الشعب الفلسطيني في غزة.
ومن المعلوم أن محكمة العدل الدولية، باعتبارها الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة قد حددت يومي 11 و12 يناير 2024، لمناقشة الدعوى المقدمة من طرف جنوب إفريقيا ضد إسرائيل والتي توجه لها الاتهام بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
ومراعاة للحيز المحدود لهذا المقال الذي لا يسعف للتطرق بصورة وافية لجميع العناصر والحيثيات والدفوع القانونية والإجرائية التقنية التي تثيرها هذه القضية، سوف نكتفي بمحاولة الإجابة عن بعض الأسئلة ذات الطابع العام التي لا شك أنها تستأثر باهتمام المتتبعين لأطوار هذه المواجهة القانونية والقضائية ومآلها أمام محكمة العدل الدولية.
- كيف يمكن لمحكمة العدل الدولية أن تساهم في حفظ السلم والأمن الدولي؟
من المعروف أن مجلس الأمن واستنادا على المادة 24 من ميثاق الأمم المتحدة، يعتبر الجهاز الذي يتولى المسؤولية الرئيسية في مجال حفظ الأمن من والسلم الدولي، ويوافق أعضاء الأمم المتحدة على أن يعمل هذا المجلس نائبا عنهم في القيام بالواجبات التي تفرضها هذه المسؤولية.
بيد أن فشل مجلس الأمن في تحمل هذه المسؤولية في العديد من النزاعات التي من شأنها تهديد الأمن والسلم الدولي في العالم، يدفع بعض الدول للالتجاء إلى توظيف ألية العدالة الدولية من أجل تجاوز شلل مجلس الأمن، وتحقيق قدر من التقدم الممكن في مجال السلم الدولي.
ويجدر التذكير أن اعتماد مجلس الأمن لقراره رقم 2720 في 22 دجنبر 2023، في ظل التوترات السياسية الشديدة بين أعضائه، لم يكن ليسمح بإحراز أي تقدم إيجابي لمعالجة الوضع الإنساني المأساوي الذي تسبب فيه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ولعل الأسباب ذاتها، لاسيما استحالة إحراز أي تقدم في مجلس الأمن المشلول بحق النقض الذي تتوفر عليه روسيا، هي التي تبرر لجوء دولة أوكرانيا في 27 فبراير 2022 إلى تقديم شكوى ضد فيدرالية روسيا، بالاستناد إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) على إثر اجتياح القوات الروسية العسكرية الروسية لإقليم هذه الدولة.
ويتضح من دعوى أوكرانيا ضد فيدرالية روسيا (27/02/2022)، وجمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل (29/12/2023)، أنه بالرغم من الاختلاف الموجود في الحجج القانونية والأسباب والاعتبارات السياسية التي تتأسس عليها هذه الدعاوى، فإنها تتشابه في كونها تجعل من القضاء الدولي محفلا مفضلا يتم اللجوء إليه في وقت الأزمات الناتجة عن النزاعات المسلحة.
ولا بأس من الاشارة أن جمهورية جنوب افريقيا في هذه القضية، بتقديمها للدعوى أمام محكمة العدل الدولية، فكأنها تستجيب للنداء الذي أطلقه عدد من الملاحظين لا سيما الأكاديميين منهم منذ أواسط شهر دجنبر 2023 ،والداعي الى "تحريك الآليات الدولية الأخرى المتوفرة لتسوية النزاعات" (أنظر مقالنا السابق المنشور في 25/12/2023).
2- هل تعتبر محكمة العدل الدولية مختصة للنظر في الدعوى ؟:
يستند تقديم جنوب افريقيا للدعوى أمام محكمة العدل الدولية على أساسين قانونيين، أولهما المادة 36/ الفقرة 1 من النظام الأساسي لهذه المحكمة، التي تنص على أن ولايتها تشمل "جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها".
وثانيهما، المادة 9 من اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اعتمدت في 9 دجنبر 1948 ودخلت حيز النفاذ في 12 يناير 1951) ، التي تنص على أن "تعرض على محكمة العدل الدولية، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة من الاتفاقية".
واعتبارا لكون كل من جمهورية جنوب افريقيا واسرائيل أطرافا في الاتفاقية المذكورة، واعتبارا للتسجيل الرسمي لانضمام دولة فلسطين الى هذه الاتفاقية في أبريل 2014، فإن شروط الاختصاص الموضوعي للمحكمة تبدو متوفرة للنظر في الدعوى.
وارتباطا بمسألة اختصاص المحكمة على أساس اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ثمة سوابق عدة قبل الدعوى التي تقدمت بها دولة جنوب افريقيا، احتجت فيها الدول المدعية بهذه الاتفاقية كأساس قانوني لاختصاص محكمة العدل الدولية. فقد دفعت مثلا دولة البوسنة بنفس السند في الدعوى التي قدمتها في 1993 ضد الجمهورية الفيدرالية ليوغوسلافيا. واستندت أيضا دولة غامبيا في 2019 على نفس الاتفاقية لتقديم دعواها أمام المحكمة ضد دولة ميانمار، بشأن ما نسبته إليها من الأفعال التي تبنتها هذه الدولة أو ارتكبتها أو تغاضت عنها، والتي تكتسي بحسب الدولة المدعية (غامبيا) طابع الإبادة الجماعية "للروهينغا"، باعتبارهم مجموعة إثنية وعرقية ودينية.
كما أن دولة أوكرانيا، اعتمدت على نفس الاتفاقية لتقديم دعوى أمام المحكمة ضد فيدرالية روسيا بشأن النزاع القانوني الذي نشأ بينهما بخصوص ادعاءات روسيا ارتكاب أوكرانيا لجريمة الإبادة الجماعية ضد سكان إقليمين واقعين في شرق أوكرانيا (لوهانسك ودونيتسك) وشنها إثر ذلك غزوا عسكريا كاسحا لأراضي أوكرانيا.
إن لجوء الدول الى محكمة العدل الدولية في مثل هذه الحالات المشار إليها، يعكس جنوح الدول الى البحث عن الأساس القانوني الذي ينبني عليه اختصاص المحكمة، ذلك أن اختصاصها للبت في المنازعات المعروضة عليها، لا ينشأ على نـحو منتظم وآلي، ولا يقوم على صفة عضوية أطراف النزاع في منظمة الأمم الـمتحدة، بل يفترض لانعقاده، وفقا لـمبدأ التراضي، قبول الدول لاختصاص الـمحكمة في فض النزاع القائم، لاسيما عن طريق بند أو شرط التقاضي أمامها كما تنص على ذلك الـمادة 9 المومئ إليها من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
3- ما هو الهدف من اللجوء إلى الـمحكمة؟
بالاستناد على طلب الطرف الـمدعي (ج ج أ) الموجه إلى هيئة محكمة العدل الدولية، ثمة هدف مزدوج من اللجوء إلى هذه الهيئة القضائية. أولا، إقرار المحكمة بكون الأفعال والتجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل تندرج في نطاق تعريف جريمة الإبادة الجماعية، لأنها تهدف إلى القضاء على جزء كبير من المجموعة الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية. وثانيا، الالتماس من المحكمة بأن تصدر قرارا يتعلق بالتدابير الاحترازية المؤقتة التي من شأن اتخاذها «الإيقاف الفوري للعمليات العسكرية في وضد غزة".
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، إن السؤال المطلوب أن تجيب عليه المحكمة هو التكييف القانوني للأفعال التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، كرد فعل على الهجمات التي شنها الجناح العسكري لحركة حماس في 07 أكتوبر 2023 على "أراض خاضعة لسيادة دولة إسرائيل".
وبهذا الخصوص، يتعين التذكير أنه سبق لعدد من خبراء الأمم المتحدة منذ منتصف شهر نونبر 2023 أن نبهوا المجتمع الدولي إلى خطورة الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل في حق السكان المدنيين في قطاع غزة، مبرزين ثبوت نية مقصودة "لتدمير الشعب الفلسطيني الموجود تحت الاحتلال". وقد أكدت لجنة القضاء على التمييز العنصري هذه المخاوف في بلاغ أصدرته بتاريخ 21 دجنبر 2023. عبرت فيه عن "انشغالها العميق" بالوضع الإنساني الفظيع في قطاع غزة.
لقد أكدت دولة جنوب إفريقيا بصفتها الطرف المدعي في مرافعتها الكتابية التي تحتوي على أكثر من 80 صفحة، أن "الأفعال والتجاوزات التي ارتكبتها إسرائيل تمثل إبادة جماعية لأنها تهدف إلى القضاء على جزء كبير من المجموعة الوطنية والعرقية والإثنية الفلسطينية، وهي جزء من المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة....." مضيفة أن إسرائيل ".... قد انتهكت أيضا ولا تزال تنتهك التزاماتها الأساسية الأخرى بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بما في ذلك الفشل في منع الإبادة الجماعية أو معاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من قبل كبار المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم....".
ويكتسي بت المحكمة في مرحلة أولى في مقبولية طلب/دعوى جمهورية جنوب أفريقيا، والتصريح باختصاصها للنظر في النزاع أهمية بالغة من الناحية القانونية، لأنها فرصة لقضاة هذه الهيئة الدولية لتقديم التوضيحات اللازمة بشأن مدى وجاهة التكييف القانوني للأفعال المنسوبة لإسرائيل، ومدى كون هذه الأفعال مشمولة بتعريف جريمة الإبادة الجماعية طبقا للمادة II من الاتفاقية المذكورة.
بيد أن بت المحكمة في جوهر النزاع المعروض عليها ليس هو المطلوب منها في هذه المرحلة ، و يستغرق في الغالب مدة زمنية طويلة نسبيا، الأمر الذي يبرر التماس دولة جنوب أفريقيا من المحكمة – وأمام طابع الاستعجال الذي يتسم به الوضع في قطاع غزة – إصدار قرار بشأن التدابير الاحترازية المؤقتة التي يجب اتخاذها (طبقا للمادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة والمواد 73 – 74 – 75 و 76 من نظامها الداخلي) من أجل ضمان الحماية للحقوق المكفولة للشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ومنع تعريض هذه الحقوق لضرر خطير لا يمكن تعويضه.
ويتبين من الدعاوى السابقة التي عرضت على محكمة العدل الدولية بالاستناد إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية لسنة 1948، أنها (الدعاوى) كانت مقرونة أيضا بطلبات اتخاذ المحكمة للتدابير الاحترازية على نحو مؤقت أخذا بما تنص عليه المادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة.
والجدير بالتذكير أن هذه التدابير المؤقتة لا تقررها عادة المحكمة بصورة ممنهجة. بيد أنها في حالة ما إذا اقتنعت بتوفر ظروف الاستعجال، ووجود احتمال قوي لارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق المجموعة المستهدفة وتعريضها لضرر وشيك وغير قابل للتدارك أو التعويض، يغدو بإمكان المحكمة تحديد التدابير المؤقتة التي تعتبرها ضرورية وملائمة والتي تصبح "ملزمة" للأطراف، على الرغم من غياب إجماع الفقه حول مدى اكتساب هذه "التدابير المؤقتة" قوة الشيء المقضي به.
4- إحالة الدعوى ضد إسرائيل على محكمة العدل الدولية: أي حظوظ لكسب الدعوى؟
شرعت محكمة العدل الدولية في النظر في الدعوى التي قدمتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بعد أقل من أسبوعين على تاريخ التوصل بها وتسجيلها. ولعل السرعة الملحوظة في تحديد المحكمة لجلساتها الأولى (11و12 يناير 2024)، تشبه الى حد كبير ما سبق أن قررته المحكمة في قضية أوكرانيا ضد فيدرالية روسيا، حيث أنها بتت في طلب اتخاذ التدابير المؤقتة في 16 مارس 2022 بعد أقل من شهر على تقديم الدعوى في 26 فبراير 2022.
وبالاستناد الى ما استقرت عليه ممارسة المحكمة بخصوص فحصها لمدى توفر الشروط التي تبرر البت في طلب اتخاذ التدابير المؤقتة في القضايا المعروضة عليها، يتضح أنه بالإضافة إلى ثبوت حالة الاستعجال، ووجود حقوق من الواجب حمايتها من الانتهاك، فضلا عن الاحتمال القوي لوجود خطر يهدد بتعرض هذه الحقوق لضرر لا يمكن جبره وتعويضه، يكون لزاما أن تصرح المحكمة باختصاصها بحسب الظاهر من الوقائع والأدلة والحجج المدلى بها أمامها.
إن تصريح المحكمة بكونها مختصة للنظر في النزاع يستلزم منها في مرحلة أولى، أن تتأكد من وجود نزاع قانوني بين الأطراف – وسيرا على ما دأبت عليه في اجتهاداتها السابقة – يكون اختصاصها مشروطا بالتأكد من وجود وجهات نظر متعارضة بين أطراف النزاع.
وفي القضية الحالية، ليس المطلوب من المحكمة أن تقرر فقط موقفها من مدى انطباق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية
على النزاع قيد نظرها، بل يتعين عليها فحص الأدلة والحجج المدلى بها أمامها للحسم في انطباق أحكام الاتفاقية على القضية المعروضة عليها من عدمه، آخذة بالاعتبار في تأسيس موقفها كافة العناصر الواقعية والقانونية والادعاءات والتصريحات التي بسطتها أمامها جمهورية جنوب أفريقيا، وردود الفعل الصادرة عن دولة إسرائيل فيما يتعلق بانتهاكاتها لالتزاماتها الاتفاقية.
وينبغي التنبيه أيضا إلى أن عدم اعتبار دولة جمهورية جنوب أفريقيا طرفا مباشرا في النزاع، لا يعد سببا وجيها يمنع المحكمة من النظر في الدعوى التي قدمتها هذه الدولة، حيث أن كونها دولة متعاقدة وطرفا في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية هو الذي يكسبها الصفة والمصلحة في رفع الدعوى امام المحكمة، وهذا ما ذهبت اليه وأكدته محكمة العدل الدولية في قضية غامبيا ضد ميانمار (قرار المحكمة في 22 يوليوز 2022 بشأن البت في الاعتراضات الأولية).
ومن دون شك، إن إقرار محكمة العدل الدولية للتدابير المؤقتة التي تلتمسها جنوب أفريقيا، لن يضع حدا بصورة فورية للعمليات العسكرية المكثفة والمتواصلة التي ما فتأت تشنها القوات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية وسكانها المدنيين، بذريعة ممارسة حقها المزعوم في الدفاع عن مواطنيها وحمايتهم من هجمات مقاتلي حركة حماس منذ 07 أكتوبر 2023، واعتبار هذه "الهجمات على الأراضي الإسرائيلية انتهاكا لقواعد القانون الدولي". لكن التدابير المؤقتة التي يمكن للمحكمة أن تأمر الأطراف باتخاذها، من شأنها ان تساهم في تقوية حجم الضغط على الحكومة الإسرائيلية ومزيد من الإحراج لحلفائها، وحمل إسرائيل على تغيير موقفها من الشروط التي تفرضها لوصول المساعدات الإنسانية الى السكان المدنيين، والكف عن تنفيذ خطة التهجير القسري لسكان قطاع غزة.
وعلاوة على ما سبق، يمثل تأويل المحكمة للمادة 9 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية – وهي الأساس القانوني لاختصاصها في القضية قيد النظر – رهانا قانونيا في غاية الأهمية، ليس فقط فيما يتعلق باتخاذ التدابير المؤقتة، ولكن أيضا خلال مرحلة تصدي المحكمة لجوهر القضية.
وفي الشق الإجرائي لهذه القضية، يجب استحضار المادة 63 / الفقرة 2 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، التي تخول لبعض الدول الأطراف في اتفاقية منع الإبادة الجماعية الحق في للتدخل في الدعوى والمشاركة في النقاش حولها، رغم عدم كونها أطرافا في النزاع المعروض على المحكمة. وبناء على هذا البند عبرت 32 دولة عن إرادتها في التدخل في دعوى أوكرانيا ضد فيدرالية روسيا المشار إليها سابقا، كما ان عددا من الدول صرحت مؤخرا برغبتها في التدخل في الدعوى التي رفعتها دولة غامبيا ضد ميانمار، مبررة موقفها ب «المصلحة المشتركة في تحقيق أهداف الاتفاقية ومصلحتها لاحقا في التأويل السليم لأحكام الاتفاقية.... « .
وحرصا على تبديد اللبس الذي قد يؤدي إلى سوء فهم الهدف المتوخى من تقديم الدعوى أمام محكمة العدل الدولية أو في توقع مآلها المحتمل، ينبغي التأكيد أن جمهورية جنوب أفريقيا بصفتها الطرف المدعي، لا تسعى في هذا الطور الأولي من الدعوى على الأقل، إلى إقامة الدليل الكفيل بإقناع المحكمة بأن تصدر قرارا نهائيا تعتبر فيه أن الأفعال المنسوبة إلى إسرائيل في قطاع غزة، تندرج في نطاق تعريف جريمة الإبادة الجماعية. إن ما يراهن عليه الطرف المدعي في الواقع، هو استصدار قرار إيجابي من المحكمة بشأن اتخاذ التدابير المؤقتة. وتكمن أهمية هذه التدابير في حالة إقرارها من طرف المحكمة – قبل الحكم النهائي بالإدانة من عدمها - في كون هذه التدابير تعبر عن اعتراف المحكمة بتوفر ما يكفي من الوقائع والمعطيات والمعلومات الموثوقة التي تدفع الى الاعتقاد بان ثمة جريمة للإبادة الجماعية يتم ارتكابها في غزة.
ومن ثم، إن جمهورية جنوب أفريقيا لا تسعى في هذا الطور من الدعوى إلى إصدار المحكمة لقرار نهائي في النزاع، بل إنها تسعى فقط إلى إقناعها بوجود مبررات وجيهة لإصدار قرار بشأن التدابير العاجلة والمؤقتة التي تلزم إسرائيل بالكف عن استعمال القوة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وفي المقابل، يركز دفاع إسرائيل على البحث عن تقويض الادعاء بتوفر عناصر ومكونات الإبادة الجماعية، وبالتالي إقناع المحكمة بانعدام أي أساس لسريان اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وانطباقها فعلا على القضية قيد النظر، مما يترتب عنه رفض المحكمة لطلب الطرف المدعي.
يمكن الخلوص من مجموع ما حاولنا توضيحه فيما تقدم، إلى أنه أخذا بالاعتبار الإمكانيات والفرص التي توفرها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (152 دولة صادقت عليها وأبدت بعض الدول تحفظها على المادة 9) لمحكمة العدل الدولية، من أجل البت في النزاع بين جنوب أفريقيا وإسرائيل، فمن المؤكد أن تأويلها المنتظر لأحكام هذه الاتفاقية يمثل رهانا بالغ الأهمية لجميع الدول الأطراف فيها، بالنظر إلى ما سيرتبه من آثار وتبعات قانونية على الالتزامات الاتفاقية لهذه الدول في سياقات أخرى جهوية أو دولية.
ومن ناحية أخرى، مهما كان الاتجاه الذي سيذهب اليه قضاة محكمة لاهاي، فإن مسؤولية المساهمة في حفظ السلم الدولي المنتظر منهم تحملها تعتبر قطعا جسيمة بسبب حدة التوترات الدولية التي يثيرها النزاع المسلح الراهن بين حركة حماس وإسرائيل.
إن هذه القضية تضع في رأي العديد من الملاحظين الدوليين مصداقية القانون الدولي على المحك، فقدرته على إلزام جميع الدول دون استثناء أو تمييز، وحماية جميع الشعوب على قدم المساواة تواجه تحديا كبيرا.