الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: تشويه المعمار سلطة مطلقة للجهل بالجمال

إدريس الأندلسي: تشويه المعمار سلطة مطلقة للجهل بالجمال إدريس الأندلسي
كم سيكلف هدم هيكل محطة القطار بالرباط؟ وسنظل نؤمن بأن الدولة هي التي تصنع رجال الدولة.
بدأت أشغال بناية محطة قطار فائق السرعة قبل سنين في وسط المدينة الرباط. شاهد القاصي والداني كميات كبيرة من الحديد تطوق مشهدا جميلا وتسائل عن سبب بلاء معماري يهدد تاريخ العاصمة. في أول الأمر انتصر التقنيون وقرروا بناء سجن تخيلوا أنه ابتكار معماري. أرادوا "دون إرادة" إخفاء جمال تاريخي أصله موحدي واستمراره موريسكي ووجوده مغربي حتى النخاع. وللمبصر حق في الكلام عن التاريخ أكثر من غيره. لأن الغيرة على التاريخ لها أصل وفروع، وهي ذلك التحصين الثقافي للفعل الحضاري. وشكرا لكل الغيورين على ذاكرة المدن المغربية المشكلة للرأسمال التاريخي الذي لن يقبل أي تقييم له بلغة البورصات ذات لغة المسماة بالقيمة النقدية.
 
وهكذا سيطر أناس كفروا، والعياذ بالله، بكل القيم الإنسانية والحضارية التي ربطت المقدس بالثقافي وبغيره للحفاظ على الإرث الإنساني. ظل هذا الإرث أكبر من هواجس إنسان ساقه هوس السوق إلى  الانسياق وراء القيم السوقية. وستظل الرباط محصنة ضد تجار الفقر المعماري. وستظل مراكش وفاس وآسفي ومكناس والصويرة ووزان وطنجة وتطوان والشاون عصية على الأميين الذين تمكنوا من مراكز القرار في بلادنا  ذات الجذور العريقة. ومن هؤلاء المتمكنين تجار مخدرات وجهلة بالثقافة وبالتاريخ ومتمكنين بالميزانيات والتحكم في القرار. قررت أن أبتعد قليلا عن علاقة عمالقة بالمدينة. تنكرت برهة لإبن رشد وإبن خلدون ولذلك "النصراني فيبير" العالم" الذي تفلسف من أجل مدينة  محاولا اللحاق بأرسطو. وتنكرت لتاريخ بلادي ولخطاب زعماء ما بعد الاستقلال. تذكرت، بحياء، أن النقد البناء، يستوجب بعض الكلام المباح عن خطاب ذكي، يقظ، سياسي مباح.

راكم المغرب عبر قرون طويلة كنوزا معمارية صنعت شخصية وذاكرة يحفها الجمال ويشكل لغة تكلم بها جمهور من صناع الجمال. أتذكر بكثير من التبجيل تلك الزيارات المنتظمة التي كان يقوم بها الملك الراحل الباني الحسن الثاني لورش للمسجد الذي يحمل إسمه. كانت له ملاحظات دقيقة وهو يحاور "المعلمين لكبار" في كافة الاختصاصات من النقش على  الخشب إلى إختيار أشكال وألوان الزليج الفاسي والخشب المراكشي وفنون ترتيب الرخام والنحاس والثريات وحتى شكل الزرابي. ثقافة كهذه لا تأتي من فراغ ولكنها تنبع من تاريخ تليد ومن معرفة عميقة بالأرض المغربية. حمل وارث سره الملك محمد السادس نفس الهم الجمالي وأمر المسؤولين بتنزيل الجمال عبر التاريخ الجمالي للمدينة المغربية. 

تمت إعادة هيكلة لحواضر المغرب بإصرار رغم وجود رغبة كبيرة لدى من يرفضون الجمال المعماري ذو الجذور الثقافية، ويفضلون رسوم الكمبيوتر والحديد والزجاج والخشب العصري وسهولة التعامل مع المجال بشكل سريع وقريب إلى كل ما هو مصطنع. المهندس المعماري هو ذلك الكائن الفنان الذي أطلع خلال دراسته على التاريخ والجغرافيا والاثنولوجيا وعلم الاجتماع وتقاليد الأسر في مختلف أنحاء الوطن. تابعنا كيف أهتم ملك البلاد بالمتابعة الشخصية لإعادة هيكلة الكثير من المدن العتيقة. لولاه لما نجحت الكثير من المشاريع وعلى رأسها تلك التي تم تنفيذها في شمال المغرب. يعرف جميع المغاربة أن دار المخزن هي في الأول مخزون ثقافي معماري يتحمل الطقوس ويحمل كل الإرث المعماري المستجيب لعلاقات إجتماعية تعكس نوعية السلطة والفقه والقضاء والثقافة بكل أشكالها.  قد تتغير العلاقات السلطوية ولكن الجمال المعماري لا يموت بموت أجساد من كانوا يمتلكون السلطة. "كملات الباهية"، جملة ذات حمولة تاريخية أصلها علاقة حميمية بالجمال واستمراريتها تتجسد في زيارات بمئات الآلاف لقصر الباهية الذي بناه "با حماد" أو من كان يكنى" بدفة المغرب". رافقت تجليات سلطته تطور شخصية الملك عبد العزيز إبن الحسن الأول. رحلوا جميعا وظل جمال الباهية يستقطب زوار مراكش من كل الأجناس. وظل بيننا، نحن المغاربة، من يصرون على مدح مظاهر الاستلاب العمراني وعلى محاربة القرميد والزليج و النقش على الخشب  و كل ما هو جميل وقابل للتأقلم مع القرن الواحد و العشرين بكثير من الأناقة والثقافة وعمق الأصالة. 

صادفت مسيرتي المهنية عمل مؤسسات تهتم بتكوين المهندسين المعماريين. حزنت لوضعيتها ولتصنيفها حسب صعوبة ولوجها بالاعتماد على معدلات الباكالوريا العلمية وخصوصا ما يتعلق بالرياضيات والفيزياء. وتذكرت سنوات السبعينات في ساحة الوطن "ناسيون" بباريس حيث كان مقر المدرسة الوطنية للمعمار. حضرت تقديم طلبة لمشاريع تخرجهم.  كانت الأسئلة والمناقشة تركز على ارتباط المشروع بالثقافة و التاريخ والرقص والاثنوغرتفيا والأنثروبولوجيا وقليلا ما كان الكلام يمتد إلى هياكل الأسمنت المسلح. 

المشكل أيها المختصون أنكم تركتم أو أجبرتم على ترك المجال للأمين أصحاب القرار الإداري والمالي  والسياسي (بالمفهوم الشعبوي) للكلمة.  وتحولت جمعيات المحافظة على الثراث والذاكرة إلى منتدى لمناضلين من أجل حماية تاريخ وذاكرة وثقافة دون وسائل ولا تمدد مؤسساتي مسنود من طرف حكومة أو برلمان أو مجالس ترابية. 

حتى عاصمة الأنوار  وعاصمة المملكة تعيش على إيقاع الاختيارات غير المفهومة. كادت بعض المآثر  أن تشوه لولا بعض المثقفين المسكونين بهم التاريخ والثراث والدود عن رأسمال لامادي غالي جدا. وهكذا حافظنا عن مقهى حي الأوداية وكثير من زقاق الرباط. ولا زال العمل الواعي بالتاريخ مطلوبا لحماية ذلك الرأسمال. والمثال الكبير الذي يجب أن يدفعنا إلى محاسبة المسؤولين هو ما يقع في محطة القطار الموجودة وسط الرباط. الأمر كبير و مكلف ماليا  وذو ثقل على سمعة تدبيرية ضعيفة وتكاد أن تكيف قانونيا وحتى جنائيا لأن آثارها المالية يتحملها المواطن في نهاية المطاف.

والآن وقد بدأ تفكيف الهياكل الحديدية التي كلف تركيبها الملايير،  يجب أن نتساءل عن التكلفة الحقيقية لمشروع يتعلق بخلق نقلة نوعية في قطاع النقل السككي ببلادنا. لماذا قدم المهندسون المتخصصون في الحديد  والزجاج أكبر مشروع في وسط العاصمة دون أية رؤية ثقافية ومعمارية. وتدخلت اليونسكو لتقول لمهندسينا أنكم تجهلون التاريخ  والتزامات بلادنا في مجال الحفاظ على الثراث الإنساني المصنف. 

هل وصل بنا الأمر أن نوكل أمور تاريخنا المعماري إلى أقلنا فهما للتاريخ  وللإعمار المغربي. نعم نخسر كل يوم ملايين الدراهم ومن سيدفع الفاتورة. تناسى من حصلوا على الصفقات أن للمغرب تاريخ معماري عريق وجميل. تحاملوا على مظاهر الجمال بكثير من الاحتقار للزليج والجبس والأقواس والأبواب الكبيرة وقرروا أن يتجاهلوا جمال الرباط وفاس ومراكش ومكناس  وتارودانت وركزوا على بنيات حديدية مكلفة غطت على سور المدينة وعلى الشكل المعماري لمحطة القطار الأصلية. وهنا وجب الإعتراف بالخطيئة الأصلية التي أوصلتنا إلى مسخ ثراتنا المعماري بعد أن تولى "بعض الأميين" أمر الجمال الحضري" وهو أمر يكبرهم بكثير. أمر المعمار ببلادنا يجب أن يبتعد عنه من لهم مجرد تقنيون مختصون ببناء أشكال غريبة عن تاريخ جمال معمارنا. والدليل غرابة محطة قطار القنيطرة و المحطة الجديدة للقطار الفائق السرعة لطنجة. وتحية لمن كان وراء نحث محطة القطار لمراكش. وكل "عدم الإحترام" لمن تخلى عن الثقافة المغربية في تصور الشكل المعماري للمحطة التي خصصت للقطار فائق  السرعة في طنجة. 

لدينا مواطنون شرفاء ذوي كفاءات تاريخية وعلمية وجمالية كونوا جمعيات لحماية الذاكرة المغربية.  قليلة هي السلطات التي تنظر إليهم بعين الوعي التاريخي وكونهم مثقفين يحملون هم الحفاظ على هوية  وتاريخ وأسلوب حياة في زمن يمتلك فيه القرار العمراني والمالي  والتاريخي أناس حملتهم موجة التحزب  وصنعتهم  لوبيات تدبير المجالات الترابية، فأصبحوا "نخبة" تقرر  وتقهر  وتعري عن ضعف التحكم العاقل في زماننا. نحن الآن نشاهد ونتفرج على تبخيس صرف المال العام في الكثير من مناطق البلاد وعلى الخصوص في وسط عاصمتنا الرباط. أضاع صناع قرار قبل سنين أموالنا وهاهم اليوم يعيدون مهزلة إزالة آثار قرار وضع هياكل حديدية من فوق محطة القطار. وكل هذا له تكلفة بالملايير من أموال الوطن. أتمنى أن يكون هذا "حدا للباس" وأن يستشار العالم المختص بالمعمار والعمران والتاريخ قبل أن يتخذ القرار من طرف مهندس الأسمنت المسلح القوي والمسنود والجاهل. 

ومن غريب الصدف أن عامل مدينة آسفي ورئيس مجلس مدينتها التزما، خلال لقائهما بوفد برتغالي ومغربي ضم مؤرخين ومهووسين بالثقافة، على العمل مع المجتمع المدني المسالم لإعادة التاريخ إلى مكانه الحقيقي في المدينة. وفي نفس اليوم، اهتزت الأرض وهي تسائل الجميع عن مسار التأسيس الحقيقي للمعمار. وسيظل سؤال البناء كبيرا يحتاج إلى الكبار من المغاربة وليس إلى صغارهم. مشكلتنا اليوم هو أن السياسة تصنع الصغار. وسنظل مؤمنين بأن الدولة الكبيرة هي التي تصنع رجال الدولة.