الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد ناجي بن عمر: من وحي باديتي

محمد ناجي بن عمر: من وحي باديتي محمد ناجي بن عمر

استيقظ حْمِيدَةْ باكرا بعد صلاة الفجر مباشرة، وأتى بحماره الهزيل، و وضع عليه الجراب (الشْوَارِي). ثم حمل عليه كيس شعير في حدود 5 عَبْرَاتْ، أي ما يعادل سبعين كيلوغراما. إضافة إلى دجاجة صغيرة (عَتُّوﯕَةْ) فضَلَت عن غنائم الثعلب الذي يزور هذا الدوار النائي باستمرار. ساعدته زوجته مَحْجُوبَةْ في شدّ الحبل هامسة في أذنيه (الدْرَارِي رَاهْ عَرْيَانِينْ شُوفْ بَاشْ تَكْسِيهَمْ الله يَرْحَمْ بَّاكْ).

 نظر إليها، وكاد يصفعها، لأنها ذكّرته بالحقيقة المرّة، إضافة أنه لم يفطر بعد، ولم يأخذ سيجارته المعتادة. لكن شيئا ما زجره عن فعلته، وضرب حماره الهزيل بعنف نحو السّوق الذي يبعد بكيلومترات. ولم يكن هو الوحيد في الطريق إلى السوق، فلا شكّ أن صوت الخرفان والأبقار والدجاج تعكس ذلك.

كان الجو مظلما والبرد قارسا والأرض موحلة، وحمار حْمِيدَةْ يلعن اليوم الذي اشتراه فيه صاحبه، ويحب لو أنه أكلته السّباع في حديقة الحيوان بدل هذا التّعب كله. فالجوع في الدار، حيث لا شعير و لا تبن، و الأثقال فوق الظهر والسوط على الجانبين. حياة كلب هذه التي أحياها أنا يقول المسكين. أما حْمِيدَةْ فليس أحسن حالا منه. يرتدي قميصا قديما كان قد اشتراه من الجوطية بخمسة دراهم سنتين خلت، أما سرواله فقد أعطاه إيّاه أبن خالته عندما زاره آخر مرة عندما ذهب إلى المدينة. أما حذاؤه فقد اقتناه من أحد أبناء قريته من الجنود الفارّين من سلك العسكر، مقابل أجر عمل يومي. الجميل الذي يلبسه، جلباب أسود نسجته له مَحْجُوبَةْ من بقايا صفوف غنم كان قد اشتراها لهما ابن عمتها ذهب الجفاف الأخير بها كلها.

بالوصول إلى السّوق اقتبله قابض الضرائب السوقية (الصّنك) بنهرة فحواها تأدية خمسة دراهم على السلعة التي يحملها الحمار المسكين الذي فرح بانتهاء مهمته رغم العرق المتصبب منه. لم يستطع حْمِيدَةْ إقناع ذلك الرجل العبوس الخشن أنه يراهن عنده الحمار حتى يبيع الحبوب، فقهقه القابض حتى ظهرت نواجذه. ثم انقلب عبوسا في اللحظة نفسها  كمن يمثل دورا على خشبة، صارخا في وجهه "وَاشْ كَتْفَلَّا عْلِيَّا!؟".

 لم ينطق حْمِيدَةْ بأي شيء حتى تدخل مَسْعُودْ وأدى عنه ثمن الصّنك، بعد أن كال الشتائم للقابض الذي لم يكترث. بل فرح وهو يسمع صوت الخمسة دراهم تنزل في جوار أخواتها داخل حقيبة جلدية. أنزل المسكين الشعير والدجاجة النحيفة من على ظهر الحمار متجها نحو الإصطبل حيث يعلم أنه عليه تأدية مبلغ ثلاثة دراهم في آخر النهار مصاريف الحراسة والعناية. فرجع مسرعا إلى سوق الحبوب.

 وضع كومته بين القناطر المقنطرة من الحبوب المعلبة في الشاحنات. مضت ساعة تقريبا، ولا أحد يسأل حْمِيدَةْ عن شعيره " الْحَايَلْ" القديم بعض الشيء، ومما زاد قلقه، رؤيته الناس يتهافتون على الشعير الوارد من الخارج والمدعم، أما المحلي فغير مرغوب فيه، خاصة أنه خفيف وزنه، و قيمته الغذائية هذه السنة غير جيدة. لكن ها هو الفرج جاء على يد امرأة حضرية، اشترت خروفا تنوي تربيته في سطح منزلها لتنحره في عيد الأضحى المقبل. وهي الآن تفاوض حْمِيدَةْ على ثمن حفنة شعيره بما مجموعه ثمانين درهما. قبل حميدة الثمن على مرارة عالما في قرارة نفسه وهو المجرّب أن شعيره كله لن يكون من نصيب هذا الخروف الصغير الأعجف، بل سيتقاسمه معه حتما أطفال هذه المرأة .

فرح حْمِيدَةْ بالثمن على كل حال، وحمد الله كثيرا، ثم هرع بـ "الْعَتُّوﯕَةْ" إلى سوق الدجاج. كانت سوداء اللون، ونحيفة. لم يعطه أي أحد ثمنا مقابلها رغم ما صبرت عليه المسكينة من تقليب الأجنحة والأعضاء. لكن ها هو الفرج جاء مرة أخرى على يد عجوز لا أسنان لها، عيناها ماكرتان. لم تناقش حْمِيدَةْ الثمن، طلب عشرين درهما فأعطتها إيّاه وانصرفت. لكن صدم كثيرا عندما قالت له امرأة عجوز تبيع ديكا سمينا، "إن دجاجتك تستحق أكثر لأن لونها أسود كله وهو مطلوب عند السّحرة"، لكنه عزى نفسه و أجابها "الله يْرَبَّحْهَا".

لم تكد الثامنة صباحا يعلن عليها في مذاييع بائعي أدوية الحشرات المتناثرة أبواقهم في أرجاء السوق، حتى كان رأس مال حميدة مائة درهم! بعد أن كان مدينا لصاحب الطاحونة بستة دراهم. و لبقال الدوار بخمسة عشر درهم مقابل سجائره الأسبوعية.

اتجه مهرعا نحو المقهى للفطور، واشترى بعض الشاي والنعناع والسكر والخبز والسّمن بعشرة دراهم. هذا هو اليوم الوحيد في الأسبوع الذي يفطر فيه جيدا. دخل المقهى فوجد مَسْعُودْ الذي اقترضه الخمسة دراهم يفطر، فدعاه إلى كأس شاي، لكن كان يعلم أن الدعوة هي لاسترداد الخمس دراهم أكثر ما هي دعوة للفطور.

جلس، فناوله قرضه بعد أن صبّا جميعا ترسانة من الشتائم من جديد على هؤلاء القابضين، ثم أخد يتناول فطوره، إذا بمطربين شعبين يعزفان بكمان ودف فوق رأسه، لكن صوت أمعائه كان أكثر إطرابا وهي تستقبل الطعام في وقت متأخر من الصبح. لم يدر ما سيتصدق به على هؤلاء المطربين البائسين، لكن استدرك الأمر بأن دعاهما إلى الإفطار. إلا أنهما قالا "الله يخلف" و انصرفا، وعلم حينها أنهما يبحثان عن شيء أخر. 

و جاء عقبهما متسول أشركه حْمِيدَةْ في الفطور، مؤمنا بأنه لا يأكل وحده إلا الطّبل كما يقال. أدى درهما مقابل خدمة صاحب المقهى، وهرع صوب صاحب الدخان فاشترى علبة سيجارته المفضلة بستة دراهم. فدخن الأولى بشره وكأنه يصبّ فيها غضب كل ما لاقاه في صبيحة هذا اليوم. و بعد أن فعلت السيجارة مفعولها أخذت معالم السوق تتبدى جيدا بعد أن كانت مجرد أشباح أو هياكل منخورة. حمد الله على كل حال، فاتجه نحو الحلاق، لأنه لا يريد أن يصافح الناس قبل أن يحلق لحيته ورأسه الحلقة الأسبوعية.

لم يكن الحلاق ثرثارا في هذا الصباح، لأن اليوم، يوم سوق، فالعمل أهم من الكلام،  حلق حْمِيدَةْ جيدا، فأدى خمسة دراهم مقابل الوجه والرأس، أخدها الحلاق فرحا مادام أن شفرة واحدة وبعض صابون "الكّف" كانا هما المصاريف.

خرج حْمِيدَةْ يتجول في السوق، يصافح الناس ويصافحونه. يبادلهم الأخبار بالأخبار، والمستجدات الأخرى، لأنه اليوم الوحيد الذي يستطيع فيه رؤية أفراد قبيلته وهم في ظروف نفسية أريح. لم تكن الأخبار كلها سارة، خاصة إن السنة الفلاحية عجفاء، و ثمن البهائم في تدهور مستمر، و شباب الدوار الذين ذهبوا للعمل في المدينة رجعوا مبكرا دون فائدة تذكر.

طلب حْمِيدَةْ من الله اللطف، واتجه نحو جزّار السقط أو الرئة و الأمعاء وما يفضل من أحشاء الأبقار والأغنام. حيث كان الثمن مشجعا على اقتناء أكبر كمية ممكنة فاقتنى نصف كيلوغرام بعشرة دراهم، ثم اتجه نحو الخضار الذي فاوضه على  الأثمنة  كثيرا، وكانت الحصيلة كيلوغراما من كل نوع (الجزر والبطاطس والبصل واللفت والطماطم والقرع والليمون). عشر دراهم، لأن اليوم أثمنة السوق معقولة حسب الأصداء. ثم اتجه نحو بائع النعناع و القزبر (الرّْبِيعْ)، فكانت الحصيلة ثلاثة دراهم. ثم اتجه نحو البقال بالتقسيط فاشترى منه السكر والشاي والشمع والصابون، و الفلفل الأسود والأحمر بكمية قليلة، فكانت الحصيلة عشرين درهما.

بعدئذ اتجه نحو بائع البقل المملوح فاقتنى منه درهما، لأن ابنه السابع والأخير ينتظر ذلك منه أسبوعيا بشغف كبير. لم يبق له ما يتغذى به على غرار أصدقائه من الدوار، فاعتذر لهم بدعوى أن له حاجات سيقضيها في منزله. وأعطى حارس الإصطبل ثلاثة  دراهم، و اقتنى بالدرهم المتبقي بعض العلكة لمَحْجُوبَةْ. قفل راجعا منزله، وألف سؤال يدور برأسه، كان أهمها ماذا سيبيع في السوق المقبل؟

عندما جاء، وجدني مع بعض أصدقائي أمام مسجد الدوار. فدعاني لشرب كأس شاي، وأبت شهامته أن يشتكي لي من الفقر، لكن مادام أنه قريبي فقد استطعت أن أجمع حصيلته من السوق فكانت بالفرنك والسنتيم والدرهم كما يلي: (100 درهم  لتسعة أفراد بمعدل 11 درهما أسبوعيا للفرد بمعدل 1,50 في اليوم).

واعتقد أن هذا معدل جديد بالمقارنة مع من لا معدل له من المعدومين، وأن لا إحصاء سيصل إلى هذه النتيجة. لقد أغرتني فاتورة حميدة، و أردت وصفها هي ذي بالتفصيل بالدارجة المغربية تعميما للفائدة:

رأس المال  بالريال             

  المصاريف

                          النوعية

شعير1600

100

رحبة الزرع

دجاجة400

120 

خلاص الطاحونة

 

300 

مول الحانوت

 

200 

فطور ( و غذاء)

 

20

مول القهوة

 

 

120

كارو (السيجارة)

 

 

100

حجام ( حلاق)

 

 

200

كرشة/ تقلية

 

 

200

خضرة

 

 

60

قزبر و نعناع

 

420

سكر و أتاي و عطرية

 

60

مصاريف الكوري

 

 

20

مسكة لأم الدراري

 

20

طايب و هاري لدراري

 

60

نعناع السيمانة

 

المجموع :2000

 

 

فماذا يا ترى سيبيع حميدة في االسوق المقبل؟

إلى ذلك الموعد سننتظر وسنصف وسنحلل و سنفصل  وس...