الخميس 6 فبراير 2025
كتاب الرأي

محمد الخالدي: خوارزميات في خدمة الرقابة

محمد الخالدي: خوارزميات في خدمة الرقابة محمد الخالدي

لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الذكاء الاصطناعي على مستوى ترشيد استخدام الفضاء الرقمي من خلال رصد ومعالجة ملايين البيانات والمساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة في وقت قياسي من أجل الحد من نشر خطابات الكراهية والتحريض والعنف والتشهير والأخبار الزائفة ومنع الاستخدام غير القانوني للمعطيات الخاصة وحماية الملكية الفكرية للأفراد والمؤسسات وغير ذلك من قرارات تجعل الفضاء الرقمي أكثر أمانا ومصداقية. لكن لا أحد يستطيع أن يتجاهل ما تقوم بها وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى توجيه الرأي العام والتحكم في طبيعة الأخبار والمعطيات التي تصل إليه ناهيك عن تقليص إمكانيات تفاعله معها. ذلك أن الكثير من المفاهيم المتداولة على المستويين المحلي والدولي ماتزال غامضة أو على الأقل لا تحظى بالإجماع الضروري لاعتمادها. فمفاهيم الإرهاب والمقاومة والتحريض على الكراهية ومعاداة السامية وغيرها تتباين الآراء بخصوصها بتباين مصالح الأطراف ومرجعياتهم القانونية والثقافية والسياسية. فما يعتبره البعض معاداة للسامية لا يعدو أن يكون مجرد انتقاد لسياسات الحكومة الإسرائيلية وما يمكن ان يشكل فعلا إرهابيا بالنسبة للبعض يعتبر بالنسبة لآخرين عملا من أعمال المقاومة المشروعة ضد أي محتل. كما أن ما يكرس هذه التباينات في الفهم  هو غياب موقف واضح حتى داخل نفس النسق السياسي. فمثلا تم قتل طفل فلسطيني قبل أيام من طرف شخص إرهابي بالولايات المتحدة الأمريكية  وذلك بطعنه بشكل وحشي، فوصفت وسائل الاعلام الأمريكية هذه الجريمة بأنها جريمة كراهية(Hate crime) في حين أن نفس وسائل الإعلام دأبت على وصف جرائم أقل خطورة بأنها جرائم إرهابية عندما يتعلق الأمر بمجرمين من جنسيات شرق أوسطية.

إن هذا التباين في الفهم ينعكس بشكل مباشر على السلوك الرقمي لمستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، فمن خلال استغلالهم لخاصيات الحظر لأسباب ترتبط بالتحريض على الكراهية والعنف يتم توجيه إدارة هذه المنصات التواصلية إلى حظر حسابات وحذف منشورات بشكل آلي، بدعوى أن هناك آليات داخلية تقوم بمعالجة كل طلبات الحظر ودراستها واتخاذ القرارات المنسجمة وضوابط المنصة وخطها التحريري. فهذه المنصات مثلا لا تقوم باتخاذ قرارات إلا بناء على طلبات المستخدمين وبعد معالجة ودراسة هذه الأخيرة. وهي بالتالي لا تحظر ولا تحذف بشكل إنفرادي. لكن ما سجله مستعملو وسائل التواصل الاجتماعي منذ التصعيد الأخير الذي عرفته الأراضي الفلسطينية يكشف حجم التدخل في ضبط ما يتم نشره في كل وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا على مستوى الفيسبوك والتويتر، قبل أن تمتد العدوى إلى التيك توك وتلغرام وغيرها.

إن ضبط خواريزميات هذه المنصات على  رصد كل الخطابات التي اعتبرت محرضة للعنف أو مروجة للأخبار الزائفة جعلها تسقط في استهداف كل الخطابات التي تلائم بعض المستعملين بل إن الضغوط المؤسساتية خرجت إلى العلن من خلال ما تصريحات ممثلي الاتحاد الأوروبي مثلا والتي دعت كل منصات التواصل الاجتماعي إلى ضبط منشوراتها بدعوى حماية الأطفال من المنشورات الصادمة.  كما أن هناك ضغوطا تمارس أيضا من طرف منظمات حكومية ك" "Tech Against Terrorismوذلك من أجل حذف حسابات داعمة لحركة حماس الفلسطينية.

لقد بلغت المنشورات التي حذفتها فيسبوك فقط في الأيام الثلاث الأولى من انطلاق الأحداث 795.000 محتوى باللغتين العربية أو العبرية. مما يؤشر على حجم الرقابة التي تمارس تحت غطاء تفاعل الخوارزميات الذكية.

إن المواقف المعلنة للقوى الكبرى في العالم بخصوص المقاومة الفلسطينية والتعامل مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي يتم تحويلها إلى موجهات تحكم الفضاء الرقمي وتضبط خوارزمياته الذكية. فكل ما هو فلسطيني وغزاوي يتحول إلى تحريض على العنف، وكل مشهد يصور المذابح يصبح مشهدا صادما للمشاعر ينبغي حظره، أما أخبار الجرائم اليومية واحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية بخصوص الشهداء والجرحى فأخبار زائفة(Fake news) تؤجج الوضع.

إن أخطر ما في الأمر ليس الرقابة في حد ذاتها والتي يمكن أن تكون مبررة باعتبارات قانونية وأخلاقية أو حتى سياسية بل هو غياب الشفافية في ممارسة هذه الرقابة. فهذه المنصات وحدها من يتخذ القرار محتمية تارة بفعالية خوارزمياتها التي تترصد كل محتوى يخالف قواعد مجتمع المستخدمين وتارة أخرى بالاستجابة لطلبات الأفراد والمؤسسات الذين يملكون مجالا واسعا لتفسير طبيعة ما ينشر وفق مرجعيتهم ومصالحهم. ولكن قليلا ما يتم التطرق إلى الضغوطات التي تخضع لها منصات التواصل الاجتماعي من طرف القوى الكبرى في العالم سواء من خلال مؤسسات حكومية أو من خلال منظمات غير حكومية نافذة.

 الغريب في الأمر أن هذه المنصات وخواريزمياتها التي تترصد بفعالية واقتدار كل ما ينشر على الحكومية الإسرائيلية من انتقادات أو كل ما يتم تداوله من دعم للقضية الفلسطينية تسمح بملايين المضامين التي تحرض على حكومات أو شخصيات سياسية أو فكرية أو دينية.  فهذه المنصات لا تستطيع التدخل لممارسة أي رقابة في هذه الحالة بدعوى حماية حق التعبير. لكن واقع الحال يؤكد أن شعوب دول الجنوب كحكوماتها مستباحة ولا حرمة لها حتى في أعين الخوارزميات المبرمجة على المقاس.

الدكتور محمد الخالدي، باحث في القانون والعلوم السياسية، مختص في تأثيرات الذكاء الاصطناعي