Sunday 11 May 2025
كتاب الرأي

حسن مخافي: الجامعة المغربية المندمجة في خطط  التنمية لا تقوم على إصلاح بيداغوجي هجين

حسن مخافي: الجامعة المغربية المندمجة في خطط  التنمية لا تقوم على إصلاح بيداغوجي هجين حسن مخافي

إحدى مشكلات التعليم عامة والتعليم العالي خاصة ببلادن،ا تتجلى في أن تطوره لا يسير وفق استراتيجية وطنية واضحة الأهداف والمعالم، وهذا ما يفسر أن كل مسؤول جديد عين على رأس هذا القطاع الحيوي يصر على القطع مع من سبقه والبدء من الصفر في  عملية تسمى إصلاحا، وكأن قضية التعليم العالي قضية أشخاص وليست قضية شعب وبلد.

 حدث هذا مرات عدة، كانت أخرها التخلي بجرة قلم عن مشروع الباشلور الذي أنفقت لإعداده والترويج له ملايين الدراهم، وعقدت لشرحه وتفسيره عشرات الندوات الوطنية والجهوية والمحلية، وعندما أصبح جاهزا للتطبيق تغير الوزير المسؤول عن التعليم العالي،  فتراجعت الحكومة عن المشروع برمته وكأنها تملك كل  السلطة للتحكم في مصير أجيال بكاملها، بإخضاع قطاع استراتيجي مثل التعليم العالي لمزاجها الخاص.

 ومن يتأمل أوضاع الجامعة المغربية اليوم يصل دون شك إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بارتباك فرضه الانتقال من نظام بيداغوجي إلى آخر، بل إنها تطال كيان الجامعة في هويتها وفي  رسالتها التي ظلت تقوم بها منذ الاستقلال إلى الآن. ذلك أن وزارة التعليم العالي اختارت أن تقود سفينة التعليم العالي لوحدها إلى المجهول، دون الرجوع إلى المعنيين المباشرين بالقضية وهم أساتذة التعليم العالي والمؤسسات التي لها علاقة بهذا القطاع الحيوي.

وهكذا غضت النظر عن عشرات البيانات التي أصدرتها الأجهزة النقابية والشعب البيداغوجية والمختبرات العلمية بمختلف تخصصاتها، ورمت بعرض الحائط تحفظات وتوصيات المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ففرضت على الجميع "إصلاحا بيداغوجيا" أقل ما يقال عنه إنه هجين. وهجنته تكمن في أنه عبارة عن تركيبة ملفقة لأنظمة بيداغوجية فرانكفونية وأنجلوساكسونية لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الجامعة المغربية ولا حاجة البلد إلى الأطر التي تراعي هذه الخصوصية وتحافظ عليها، وهي الخصوصية التي تسند الهوية المغربية في أبعادها الوطنية، الثقافية والاجتماعية والتاريخية.

 وعوض أن تعمل الحكومة الحالية على ترسيخ مبدأ الشراكة الذي جاء به الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وكرسته كل أدبيات التعليم العالي منذ مناظرة إفران، اختارت الهروب إلى الأمام، لإفراغ التعليم العالي  من كل ما يمت بصلة إلى خلق أطر مغربية كفيلة بالدفاع عن كيان المغرب وهويته.

إن هذه الاستراتيجية التي سبق اعتمادها في أسلاك التعليم الأخرى الابتدائية والإعدادية والثانوية، والتي أدت إلى هجران المدرسة العمومية من طرف كل من يستطيع إلى ذلك سبيلا، هي نفسها التي تطبق في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح في الجامعة العمومية، ذلك أن وزراء التعليم العالي  منذ أن تحمل تدبيرها غير المأسوف عليه لحسن الداودي إلى  المتأسف عليه عبد اللطيف ميراوي ، عمدوا إلى وضع إمكانيات الدولة تحت تصرف الجامعات الخاصة وتشجيع الرأسمال الأجنبي كي يستثمر في عقول المغاربة. ومن ثم فإنهم  قد انحازوا بتزكية من الحكومات التي كانوا ينتمون إليها، إلى اختيار يزيد التعليم العالي تشتتا ويعرضه في سوق البيع والشراء الذي تكون الغلبة فيه لمن يدفع أكثر.

 هذا يعني أن توحيد التعليم ومجانيته أصبحا من الماضي، مما يخلق جوا من انعدام الثقة في الجامعة المغربية العمومية، ويؤدي إلى خلل في تكافؤ الفرص بين المتعلمين. والأنكى من هذا وذاك أن هذا الاختيار يعمق الشرخ بين تعليم نخبوي" تتوفر له كل شروط النجاح، و"تعليم عمومي" توضع في وجهه كل العراقيل التي تحول دون أن يؤدي مهمته على الوجه الأكمل. من هنا وجد المغاربة أنفسهم أمام تعليم طبقي يتماشى مع سياسة الحكومة التي تقوم في مجملها على مبدأ إفقار الفقير وإغناء الغني.

هناك من يرى في هذا الموقف من خلق "جامعات خاصة" رأيا خارج  السياق الحالي الذي لم يعد يتحمل كل هذه الغيرة على الجامعة العمومية في ظل هيمنة المنطق الليبرالي على العالم. ولكن هذا الموقف يعتمد منطقا بسيطا، مفاده أن علينا أولا أن نؤهل الجامعة المغربية لتصمد في وجه الزحف الرأسمالي على التعليم العالي، مما سيجعلها مستعدة لجو المنافسة الذي سيؤدي إليه فتح جامعات دولية نبتت كالفطر في كل مدن المغرب الكبرى. ولكي تتأهل الجامعة المغربية لتقوم بهذا الدور، عليها أن توفر للأستاذ والطالب معا نفس الشروط التي توفرها الجامعات الخاصة.

وواقع الجامعة المغربية اليوم يشير إلى أنها تعرف انتكاسة حقيقية على جميع المستويات، على الرغم من محاولات الإصلاح المتكررة. والسبب في ذلك راجع إلى أن محاولات إصلاح التعليم العالي ببلادنا لم تنبع من إرادة سياسية حقيقية تضع الجامعة في المكانة التي تستحقها باعتبارها رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم ظلت الحكومات المتعاقبة، تنظر إليها على أنها عبء مالي على الدولة. في حين أن كل إصلاح للتعليم العالي له كلفته المادية باعتباره استثمارا حقيقيا في العنصر البشري. ومن هنا بدا واضحا أن أي كلام يقوله وزير التعليم العالي حول تطوير الجامعة المغربية وتقدمها هو شعارات جوفاء مستهلكة، لأن الواقع لا يرتفع.

ومن المظاهر الصارخة لهذا الواقع أن رتبة مهنة التعليم العالي عرفت تقهقرا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع الوظائف المماثلة لها أو القريبة منها. وهذا راجع إلى أن سلم أجور الأساتذة الجامعيين لم يتحرك منذ أكثر حوالي عشرين سنة. وعندما التفتت الحكومة الحالية إلى وضعية الأستاذ الباحث بعد ضغط شديد من الأساتذة تمخض الجبل فولد فأرا. فأصبحت الزيادة في التعويضات التي أقرتها الحكومة لا تساوي  ما اقتطع من أجرة  الأستاذ التي تعرضت للقضم بفعل الاقتطاعات المتكررة (صندوق التقاعد واقتطاعات التضامن وغيرهما). وأدى هذا إلى أن ما يتقاضاه أستاذ التعليم العالي اليوم، وقد وصل في ترقيته إلى أعلى السلم، يقل عما كان يتقاضاه منذ عشرين سنة، إذا  أخذنا بعين الاعتبار  التضخم والغلاء الذي مس جيوب المغاربة جميعا .

إن هذه الوضعية الصعبة التي أصبح الأستاذ الباحث يعانيها أدت إلى ظاهرتين سلبيتين على مستوى هيئة التدريس: تتجلى الأولى في هجرة بعض الأساتذة إلى دول أخرى بحثا عن وضع أحسن، وعدم تشجيع الأساتذة المغاربة العاملين بالخارج على الالتحاق بالجامعة المغربية، وتتجلى الثانية في محاولة بعض الأساتذة البحث عن مدخول إضافي يحققون به توازن عائلاتهم المالي، وذلك على حساب عملهم بالجامعة. ولا يخفى ما للظاهرتين السلبيتين من تأثير كبير على مردودية الأستاذ على مستوى التدريس والتأطير والبحث العلمي.

و إذا عرفنا أن المشاكل مترابطة في ما بينها، وأن مطالب الأساتذة ليست مادية صرف، بل إنها تروم الحفاظ على الجامعة العمومية باعتبارها مؤسسة وطنية غير قابلة للتفويت والتصرف، والعمل على الارتقاء بها لتلتحق بمصاف الجامعات الدولية الكبرى، وهذا ما يفرض الزيادة في ميزانية التعليم العالي، أدركنا عمق الأزمة التي تمر منها الجامعة العمومية.

لا يمكن أن يتحقق إصلاح الجامعة إلا بإدخال تعديلات عميقة على القانون المؤطر للتعليم العالي المعروف بالقانون 01.00 الذي أصبح متجاوزا، لأنه لم يعد يفي بالشروط التي يفرضها سياق ما بعد دستور  2011 ومستجدات العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين.

إن هذا الترابط بين هذه العناصر كلها يبرهن على أن وضعية الجامعة المغربية لم تعد تقبل بالحلول الجزئية الترقيعية التي أبانت التجربة عن هشاشتها ومحدوديتها. ذلك أن إصلاح التعليم العالي بحاجة ماسة لكي يقف في وجه التحديات الحالية والمستقبلية، إلى إرادة سياسية تقود إصلاحا شموليا، يحافظ على هذا الصرح الوطني الذي يسمى جامعة، ويدمجه في مخططات التنمية التي تعرفها بلادنا. ولن يتم ذلك إلا بتمكين مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي من الوسائل التي تضمن لها القدرة على المنافسة، وتحصين الأستاذ الباحث من التفكير في الهجرة والبحث عن تحسين دخله من خارج مهنته، بأن يضمن له أجر يسمح له بمزاولة عمله بأريحية وكرامة. إذا لم يتوفر للأستاذ الباحث شرط العيش الكريم فإن الخشية كل الخشية أن نستيقظ ذات يوم ونجد أنفسنا أمام مؤسسات للتعليم العالي وقد هجرها العاملون بها.