في تاريخ الشعوب تعتبر الأزمات والكوارث الطبيعية وبغض النظر عن الخسائر التي تخلفها في العتاد والأرواح، إلا أنها تفرز مجموعة من القيم الإنسانية النبيلة كالتضامن والتماسك والانضباط، وبما أن المناسبة شرط، ستبقى الهزات العنيفة لإقليم الحوز (تحناوت ) موشومة في ذاكرة الشعب المغربي بهمومها وآلامها وصيحات طلب النجدة ، لأن الزلزال يماثل إلى حد ما أسلحة الدمار الشامل.. لابد أن يخلف العديد من الضحايا مهما كانت الجهود المبذولة لجبر الضرر، خاصة الجروح والآلام النفسية التي لا يمكن تعويضها ولا تقدر بثمن.
وبما أن الحدث قوة قاهرة لا يمكن توقعها ومستحيل ردها، فقد كان من الضروري ملامسة هذه الكارثة وفق مقاربة ثلاثية الأبعاد:
-البعد الأول : انتشال الشأن الإنساني من لا انسانية الزلزال..
تجسد الجانب الإنساني في شهامة الشعب المغربي وتضحيته وإحساسه بهموم الآخر، واستنفاره لتقديم المساعدات الغذائية و الأغطية والأفرشة والأدوية عبر قوافل تجوب ربوع المملكة وتطوع العديد من الأطقم الطبية لتقديم الدعم و إنقاذ الأرواح والمواكبة النفسية للمتضررين من هذه الكارثة الطبيعية حيث كان الملك محمد السادس في طليعة المتبرعين بالدم والمال والجهد مع الحرص على اصدار تعليماته لجميع مؤسسات الدولة من أجل الانخراط المباشر في الحملة الوطنية لانقاد المواطنين جراء هذا الحادث المفزع ، بما في ذلك مشاركة القوات المسلحة في هذه العملية التي تندرج في صميم المواطنة الحقة دون اغفال جهاز الوقاية المدنية والقوات المساعدة التي تقوم بتضحيات جسام .
بالموازاة مع ذلك صدرت أوامر ملكية فورية بالإستجابة إلى انتظارات المتضررين بشكل استباقي مستعجل يراعي كرامتهم وعاداتهم وتقاليدهم فيما يخص إعادة الإيواء وإعادة الإسكان، وقد بات من الضروري مراجعة مدونة التعمير والقوانين ذات الصلة بتبني تشريعات حديثة تجسد للبناء المضاد للزلازل.
كما أبانت الكارثة عن مدى نضج الشعب المغربي وانضباطه، حيث استباب الأمن والسكينة، ولم تسجل أية سرقات أو تجاوزات غير قانونية كاقتحام حرمة المنازل أو الاعتداءات الجسدية، وقد أسهم في ذلك التغطية الشاملة لعناصر الأمن بالمناطق المنكوبة .
-البعد الثاني : مكانة المغرب بين الأمم
عبرت القوى العظمى عن تضامن غير مسبوق مع المغرب ، وأعربت عن استعدادها لكل أشكال الدعم اللوجستيكية والمادية، وإرسال فرق متخصصة للإنقاذ ذات خبرة واسعة في إزالة الأتربة وانتشال الجثث، وأخص بالذكر اسبانيا تركيا إسرائيل، وكان موقف كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا جدير بالاحترام والتقدير لأنه جاء مؤسسا على مكانة المغرب كقوة صاعدة بالمنتظم الدولي دون إغفال موقف الجارة الجزائر، وأن كان بيان وزارة الخارجية يسوده الكثير من اللبس والغموض ، باعتبار أن إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية كان بقرار أحادي صرف من السلطات الجزائرية بمبررات واهية غير مقنعة، وعموما مختلف الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية عبرت عن تضامنها اللامشروط بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي ومنظمة الاتحاد الإفريقي، كنتيجة حتمية للدبلوماسية المغربية التي تنهج سياسة التوازن والحكمة والتبصر وعدم التدخل في شؤون الغير ، فالدبلوماسية الناعمة أتت أكلها بشكل كبير في قضية الصحراء المغربية بفتح العديد من القنصليات بإقليمي الداخلة والعيون واشادة المنتظم الدولي بمقترح الحكم الذاتي كحل نهائي لهذا النزاع المفتعل .
-البعد الثالث : معسكر الحاقدين والشامتين
عبر التاريخ وفي مختلف الأزمات والكوارث تظهر بعض جردان الارتزاق سواء في الداخل أو الخارج وبعض النفوس المريضة الميالة بطبعها إلى الشر ، يكون هدفها الوحيد اقتناص مثل هذه الأحداث للتشهير ونشر الأخبار الزائفة، وكم من حادث عرضي تم تحويله إلى قضية وطنية التي ترفع شعار النضالية كمطية للانتهازية والمتاجرة بآلام الناس ،كل الشعوب عبر التاريخ وفي مختلف المحن لم تسلم من تجار الحرب والاستغلال المفرط لمآسي المواطنين، لكن رغم ذلك ، فالقيم الإنسانية النبيلة التي عبر عنها الشعب المغربي جعلت من هذه الأطروحة المقيتة والعدم سيان لأنه لا تأثير لها في الأوساط الشعبية وتبخرت بسرعة في الهواء كفقاعات الصابون ، وللاستدلال على ذلك بحفريات من تاريخ المغرب وتراثه اللامادي العريق، حيث يحكى أن رجل يمتهن التسول ويستعمل من أجل ذلك مزمار يطرب به الناس ، وفي يوم من الأيام وقف بالقرب من باب مسجد مغلق معتقدا أنه منزل يقطنه السكان ، فظل يزمر أمام المسجد المغلق لمدة طويلة دون أن ينتبه إليه أحد ، فجأة خرجت من المنزل المجاور امرأة طاعنة في السن، فسألته لمن تزمر يا رجل ؟ هذا مسجد فارغ ليس فيه أحد، فأجابها الرجل " اللهم اجعل كل ما زمرناه لله ".. العبرة في ذلك أننا نجتاز مرحلة انتقالية.. وتحول ديمقراطي ما بين عهد المطبلين إلى عهد المزمرين لكن مهما كان الأمر. فإن ذلك لن ينال من عزيمة وتماسك الشعب المغربي في المغانم والمغارم.
وبالبناء عليه يمكن ترتيب الآثار السياسية الناتجة عن ذلك كالآتي:
-الحكمة المتأخرة بلادة متقدمة
-أثبت التاريخ أن المغرب تعرض للعديد من الكوارث الطبيعية ومطامع القوى الاستعمارية لكن بفضل تماسك الجبهة الداخلية وحكمة القيادة السياسية فإنه دوما يجيد القيادة في المنعرجات.
رغم الهجمات الإعلامية الحاقدة التي تستهدف المغرب بشكل متواتر، وتمر عليه مرور التتار والمغول على بغداد، فإن عمرها الافتراضي لا يتعدى ليلة واحدة كحبة الأسبرين.