الجمعة 10 مايو 2024
مجتمع

هذا ما نبه له النقيب الجامعي قبل إصدار الأحكام في حق مغتصبي طفلة تيفلت..

هذا ما نبه له النقيب الجامعي قبل إصدار الأحكام في حق مغتصبي طفلة تيفلت.. النقيب الجامعي
تحت عنوان "لا تَجُروا استقلال القضَاء لقفَص الضعفِ والهشَاشة"، كتب النقيب عبد الرحيم الجامعي، مقالة تحليلية لتداعيات قضية طفلة تيفلت، قبل أن يدان المتهمون بعقوبات سجنية بين 10 و20 سنة سجنا مع الغرامة.
وطالب النقيب الجامعي بتحمل السلطات السياسية والامنية والتشريعية مسؤولياتها عن انتهاك سلامة وأمن القاصرات والقاصرين..
فيما يلي وجهة نظر النقيب الجامعي:
أجواء الاضطراب التي خيمت على محكمة الاستئناف بالرباط وبالخصوص منذ عهد الرئيس الأول السابق، أدت إلى عدة اختلالات لدرجة اهتزت معها الثقة في المحكمة كما يعرف الجميع، وفي العديد من الأطر القضائية بسبب سوء تدبير  المسؤول السابق وضعف قدراته على بعث الحماس في قضاة المحكمة ووقف "ضغط الأرقام والأعداد عنهم وعن جلساتهم"، ليتفرغوا  للاهتمام  بالنوع والجودة وبالتعليل المتين والكافي لقراراتهم، وكان ذلك من بين الأسباب التي جعلت الخوف أو التخويف يهيمن على وجدان وقناعات البعض منهم ضدا على استقلال واطمئنان القضاة المفروض دستوريا على الجميع بما فيهم القيادات القضائية من مختلف المستويات، وكان من الأسباب كذلك التي تفرض هنا وهناك على العديد من المتقاضين للتظلم ورفع غضبهم طلبا للحماية وضمان حقوقهم وهذا ما لا يعجب أحيانا البعض من المسؤولين.    
ومن هنا، تكون مطالب  المواطنين بالإنصاف وبالحق في الدفاع وبالمحاكمة العادلة، مطالب من صميم قِيم دولة القانون لا عدالة بدونها، ولا ديمقراطية مع غيابها ولا كرامة أو حقوق الإنسان بانتهاكها. 
كما أن إلحاح المواطنين بمختلف مشاربهم على استقلال القضاء واستقلال القضاة مؤسساتيا وتشريعيا وحقوقيا، والدعوة لرفض الضغط عليهم أو التدخل في قراراتهم، كلها مطالب مشروعة لأنها تحديات طالما وقف المحامون والمحاميات قبل غيرهم، رجالا ونساء للمناداة بها  وللدفاع عنها وللاحتجاج على  انتهاكها، فكانوا من صناع  التحولات التاريخية الوطنية الأساسية والتوجهات السياسية والدستورية التى أسست لمخرجات هيئة الانصاف والمصالحة، وللأفكار  الاستراتيجية الحاسمة في دستور المغرب لسنة 2011،   وللعناصر المحورية الكبرى للهيئة العليا لإصلاح العدالة والقضاء،   
ومن المثير للتفكير والتساؤل هو كيف تصبح ضجة ملف الاعتداء الهمجي على طفلة صغيرة السن بمدينة تفيلت والذي خلق ردة فعل عارمة وطنيا وعالميا، ضجة تأتي لتخلق بدورها ضجة موازية أكثر خطرا وتعقيدا وتأثيرا وتداعيات، تتمثل في أن الجميع  محامين وقضاة مستشارين ومؤسسات وجمعيات حقوقية  وإعلاميين وشرائح مجتمعية واسعة، الكل يشعر بخوف محزن  دب في قاعات جلسات محكمة الاستئناف بالرباط ومكاتبها وأروقتها، ويشعرون بالاضطراب الذي خلق وسيستمر راسخا في الوجدان القضائي وفي العقيدة القضائية من أن التعامل مع القضايا عامة، ومع القضية المعنية بالخصوص لم يعد محصورا بين الملف ووقائعه. ووثائقه وأطرافه، بل أصبح الملف، مثار حديث السياسي والإعلامي، يضغط فيه الجمهور والشارع مناديا بلغة السخط أو العاطفة بأمور ليست من مهامه ولا من اختصاصاته.
إن صورة القضاء في المغرب وواقع العدالة أمامنا كمهنيين وقانونيين توحي بأن المغرب في مرحلة السكتة القاتلة، لأن الجميع أخرج السيوف من أغمادها وراح البعض يلعب دور النيابة العامة ليطالب برفع العقاب وبرفض ظروف التخفيف وبإدانة هذا وذاك..
إن ردود الفعل العارمة تتجه نحو  قتل التلقائية في الوجدان والأريحية في الضمير والقناعة القضائية، إنها تتجه نحو تجميد  الانسياب في قيمة وروعة  المرافعة والإقناع  والمناقشة والشفافة والاختلافات في الرؤيا  الهادئة والهادفة، ونحو الانحراف بسلاح القانون والمقارعة براي  الفقه والفكر  وغير ذلك إلى ما يرضي من يملك قوة الضغط والتاثير، وهذا القلق بمختلف تلاوينه ومبرراتها هو من يمثل المخاطر الحقيقية التي تضعف مقاييس الحياد والاستقلالية، وتدفع لا قدر الله إلى اقتراح المؤاخذات والعقوبات وفرضها على القضاة إرضاء للغاضبين ومن تجرهم الحيرة وتجردهم احيانا من الهدوء والاتزان..  
إذن أمام تحولات نقلل من وزنها ولا ندرس آثارها ومستقبلها وسندفع ثمنها غاليا،  يمكن أن نسائل أنفسنا هل بدأنا مرحلة السنوات العجاف، وهل من الضروري أن نخلط الأوراق  ونفتح عهد الصغط والتدخل في القضاء؟ فمن له مصلحة في أن نعود للنفق الذي حاولت إخراجنا منه المعالجة التاريخية لهيئة الانصاف والمصالحة لما وضعت اليد على اسباب الانتهاكات الجسيمة ولما رسمت طريق الخلاص أمام الوطن والمواطن معلنة أن القضاء هو الضامن للحقوق والحريات وللمساواة  ولدولة القانون؟ وهل سنفتح من جديد أبواب المغامرة بأهم  سلطة وهي السلطة القضائية لتصبح فاعلا سياسيا مناورا خاضعا لموازين القوة وسهل الخروج عن الحياد وعن النزاهة وعن الاستقلال ومعانيه الحقيقية؟ هذا لا يرضاه أحد منا. 
لابد للمجلس الاعلى للسلطة القضائية أن ينتبه بجهد وبجد وبمسؤولية، سواء لواجب المساءلة والمحاسبة الذي هو من مهامه ويجب أن يمارسه في إطار المشروعية بعيدا عن أي تأثير، أو لواجب الالتزام بالحذر  وتفادي أية ممارسة قد تعتبر توجيها أو ضغطا أو تلميحا لهذا القاضي أو لهذه الهيئة أو لهذا التوجه أو ذاك، فلهيبة القضاء ثمن باهض ولحقوق الضحايا والمتهمين وزن على عاتقه. 
إنها مسؤولياته ثقيلة، وهي عملية تكتسي صعوبة لا يقلل من وقعها السلبي سوى التفعيل السليم لمدونة الاخلاقيات ولمقتضيات الدستور وتفادي العمل على   تصحيح أخطاء قضائية بخلق وضعية أصعب وهي صناعة أحكام قضائية خارج المحاكم والمداولات، تحت الطلب أو تأثير السلطة أو على هوى ورغبات الأطراف.   
إن الابقاء  على حماس المجتمع،  وعلى يقظة الفاعلين القانونيين والحقوقيين، وفي مقدمتهم القضاة والمحامين، عناصر في حد ذاتها حيوية يلزمنا التعايش معها، ولا يمكن أن تصبح أزمة إلا بعد أن تصل إلى توتر، وتبتعد عن دور إذكاء الوعي وشد الانتباه  والدعوة للتصحيح، وفي القضية التي تعني الطفلة  ضحية  الاغتصاب الاجرامي الهمجي، ما يهمنا المناداة به بالأساس هو  الدعوة للانضباط للأخلاق ولقواعد المحاكمة العادلة، بعناصرها المقررة في الدستور والقانون الدولي، وليس بدعوة القضاة لهذا التوجه أو لآخر وليس بمطالبتهم برفع العقاب أو  الحكم بالبراءة أو بالاعفاء، أو  منعهم من استعمال  السلطة التقديرية في إطار القانون والمشروعية. بكل الشفافية والتعليل والتسبيب كما هو الشأن في كل الأنظمة القضائية الأكثر ديمقراطية الأصيلة في العالم. 
إن ملف القاصرة ضحية الاغتصاب، ملف يدعونا للتفكير كذلك فيما هو أكبر من طلب رفع العقوبة أو بتخفيضها، لأنه شئنا أم كرهنا سنسقط فيما يدخل في خانة إحراج القضاة وتضييق مجال حريتهم ووجدانهم وضمائرهم وتشجيع رؤسائهم للبحث عن التأثير عليهم ودفعهم للتطرف في قراراتهم، إن قضية اغتصاب الطفلة القاصر تنادينا  لنقاش مشترك حول ظاهرة تقف السلطات عاجزة عن وضع حد لها ومنها الاهمال والاستغلال والانتهاكات اليومية التي لم تعد  الفتاة القاصرة ولا الأم الطليقة أو المعنفة أو المعذبة قادرة أن تتخلص منها. إن قضية الاغتصاب موضوع الحراك الأخير تسائل ضعف الأداء التشريعي والبرلماني والتأخير في صناعة القوانين الحامية لحقوق الأطفال والنساء وإطلاق مسلسل الملاءمة الذي ينتظر قوانين أساسية منذ بداية العمل بالدستور، إن القضية المعنية تفصح دعاة تزويج القاصرات وتكذب مقارباتهم  المدججة بالابتزاز الإيديولوجي المحافظ والمتخلف، وتطرح المراقبة والانتباه الأمني المستبق واليقظة الامنية القبلية والتي تشكو من خصاص أو من تأخير مقلق….الخ. 
يحتاج القاصرون والقاصرات إلى حماية حقيقية وإلى أمن قانوني وقضائي حقيقيين، يحتاحون لمدونة خاصة بحقوق الطفل، ولمؤسسات الاستماع والمواكبة في الأحياء وفي القرى والأرياف تقيهم من الاستغلال والتهديد ومن التمييز المجتمعي والمجالي، وتحميهم من شطط السلطات ومن كل عنف ممنهج.  
أما القضاء فبقدر مسؤولياته في ضمان حريات الناس وحقوقهم،  بقدر مسؤولياته في حماية ضحايا الإجرام والمجرمين، وهذا الوعي هو ما لا ينبغي ان يغيب عنا،  وهو لا يتحقق إلا بالاحتكام للقانون والمشروعية، واستقلال القضاء والقضاة وعدم التدخل في أحكامهم، وهو الذي يضمن  إصدار القرارات الصحيحة ويضمن ثقة المتقاضين فيها وفيهم.