الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: خرافة المحاسبة السياسية في زمن سلطة التقنوقراط 

إدريس الأندلسي: خرافة المحاسبة السياسية في زمن سلطة التقنوقراط  إدريس الأندلسي
يحصل وصول لحظة الفرج والحل لمشكل متنوع العقد والمواقف الصعبة في المسرح فقط. الحل يأتي من الأعلى بواسطة قوى خفية غير ظاهرة ممتنعة على فهم الإنسان المتفرج رغم ذكائه وعلمه المسبق بوجود حل نهائي ممكن في نهاية المسرحية. صاحب الحل يختفي قبل أن نتأكد من وجوده ونهيم في مقامات النسيان إلى أن يظهر صاحب قدرات، يقال، أنها ستكون خارقة. وهكذا يمضي بنا الحال  ويتجدد الأمل في غد أفضل. المشكل في السياسة أن الأمر يتعلق بمعيش يومي وبتوازن مؤسسات. 

بعد عقود من وجود رجال ونساء آمنوا بالفعل السياسي في زمن الصعوبة والضباب والكفاف والعفاف، تم خلق سوق السياسة. العملة المستعملة فيه صباغة كل من سمي بتقنوقراطي بلون من ألوان قوس قزح من قبل أن يصبح عنوانا لفصيل ممن لهم اختيارات خاصة. المصبوغ يأتي  ويتكلم بجرأة الخبير ويكثر الوعود وقد يتعرض للغضب وقد يختفي ليعيش في رغد إلى أن تحمله أمواج أخرى إلى شواطئ غزيرة الخيرات والمنافع. ولن يحاسبه أحد في حزب قد يكون قد نسي إسمه ولم يعرف ولو سطرا من تاريخه. سوق السياسة أصبح متاحا لمن يكره السياسة  ويحب مردردها عليه وعلى أسرته. أتذكر جيدا ما قاله الأستاذ الخليفة القيادي السابق في حزب الاستقلال عن بعض من تم استوزارهم وهم لا يعرفون لا موقع مقر الحزب ولا شيئا عن  محتوى "النقد الذاتي" لعلال الفاسي. والأمر نفسه يمكن أن يشمل حزب عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة وأحمد عصمان. ولا أجد غيرهم جدير بالمحاسبة. أما من تبناهم المرحوم الخطيب فقد أبانوا عن ضعف بين في فهم السياسة. ولنا في الخروج اليومي للزعيم دليلا على أن الأمس ينتمي إلى ما مضى. 

قبل سنوات تهاطلت علينا البرامج القطاعية في كل المجالات. وعود كانت جميلة وكان من المفروض أن ترفع الناتج الداخلي الإجمالي لبلادنا إلى أكثر من 200 مليار دولار. ولكن الوعود لم تجد الإرادة ووسائل المتابعة والتقييم والمحاسبة لكي تأتي أكلها. برنامج أخضر وأزرق ورقمي وآخر مخصص في محاربة الرشوة  وعدة برامج للرفع من العرض الصحي والتعليمي، كلها ظلت تئن تحت وطأة البطىء السلحفاتي.  

لو قمنا بإحصاء التقنوقراط الذين تسللوا أو تم تعيينهم في الهيئات العليا للأحزاب قبل أو بعد جلوسهم على كرسي الوزارة لوجدنا أنهم تجاوزوا العشرات بعد المئة. بعضهم طرد من الباب  وعاد من النافذة وأكثرهم غادر الحكومة والحزب والمؤسسات العمومية وراح إلى سبيله مرتاح البال  على جميع أحواله وخصوصا الأحوال المادية. واليوم ماذا تركوا لنا بعد وعود. نسب النمو لا زالت ضعيفة وخصوصا خلال العشرية الأخيرة التي شاركت فيها كل الأحزاب التي غادرت الأغلبية وتلك التي لا زالت تقود الحكومة وتلك التي التحقت بالكراسي بعد أن عبدت لها الطريق رغم المآسي. 

الناتج الداخلي الإجمالي لم يراوح مكانه ولازال ضعيفا وفي حدود  133 مليار دولار رغم استثمار عمومي تجاوز  2000 مليار درهم خلال العشرين سنة الماضية. ميزان تجاري بعجز كبير لم تؤثر فيه صادرات الفوسفاط التي تجاوزت  115 مليار درهم  وصادرات السيارات التي  تجاوزت 111 مليار درهم وصادرات الفلاحة والصناعات الغذائية التي وصلت أرقامها إلى ما يزيد على 81 مليار درهم.  ووصلت صادراتنا المكلفة إلى مبلغ لم  يتجاوز 427 مليار درهم مقابل واردات تجاوزت 737 مليار درهم. العجز كبير ولا يمكن تبرير مستواه بزيادة أسعار الطاقة والقمح فقط. المشكل أعمق ويتطلب الكثير من الجهد لإصلاح بنيات وسياسات أصبحت غير قادرة على خلق الثروة. 

ما معنى أن  يصل استيرادنا للمواد الغذائية إلى مبلغ تجاوز 86،7 مليار درهم عند نهاية سنة 2022. وما هي القراءة الممكنة لأرقام سجلت في مجال استيراد المنتوجات النهائية أي تلك التي لا تدخل ضمن "مدخلات الإنتاج ". وما معنى أن يصل استيرادنا لنصف منتجات تدخل في صناعة السيارات و أجزاء الطائرات ومواد أخرى ونؤكد أن معدل الادماج في صناعة السيارات يصل إلى  65%. 

الأكثر من هذا أننا لا نهتم بركائز توازن الوضع الإجتماعي المرتبط بأسعار المواد الغذائية. نصدر الماء والتربة وجهد الفلاح لكي نصدر مئات الآلاف من الاطنان من خضر وفواكه دون أثر على وضعية الفلاح  وذات ثقل كبير على القوة الشرائية لملايين المواطنين.  سجلت جريدة البايس الإسبانية أن سياستنا الفلاحية زادت من قدرة الاستهلاك للمواطن الأوروبي  دون أن يكون لها أثر على مستوى عيش المنتج العامل في القطاع الفلاحي المغربي. نصدر خضرنا  وفواكهنا بأسعار أقل من تلك التي تحرق جيب المواطن. ولحد الآن لا زلنا نسمع خطابا كاذبا عن المغرب الأخضر  والجيل الأخضر  والأزرق والبنفسجي. ولم يتم أي تقييم لفهم ما جرى بعد أن خصصت ملايير من المال العام  وتعامل مليء بالكرم الحاتمي الضريبي مع الاستهلاكيات الكبرى لتغيير مسار قطاعنا الزراعي. 

أين هي آلاف مناصب شغل الموعودة؟ أين هي مستويات معدل التنمية الكبرى؟ أين هي معدلات الإدماج الصناعي؟  أين هي نتائج  اتفاقيات التبادل الحر التي تؤطر أكثر من  80% من مبادلاتنا التجارية مع الخارج. عرى تقرير النموذج التنموي الجديد على ضعف السياسات العمومية  وبين ضعف العمل في مجال تفعيل آثار الإستثمار وتردي العديد من القطاعات في مجالات التعليم  والتكوين و الحكامة والعدل. وضع المغرب ميثاقا جديدا كريما للإستثمار تم تحضيره من طرف تقنوقراط. نتمنى أن نجد حلا لكي لاننسى غدا أن نحاسب واضعو السياسات العمومية على وعودهم وعلى تصرفهم في المال العام من أجل الوصول إلى النتائج التي أكدوا على إمكانية الوصول إليها بثقة العارفين. والمحاسبة يجب أن تمتد إلى الأحزاب التي قبلت أن تصبغهم بألوانها  البراقة. ويظل الإختيار أن نعيش بدون أحزاب قائما مع مايحمله من أخطار على كافة المؤسسات. ولكل ما سبق لا يجب أن نقبل بمحاربة ممارسة السياسة بل بحمايتها من خلال محاربة القضاء والأمن للريع والفساد. المغرب أهم من مليون داخل إلى التدبير العمومي بإسم قيم تعادي الوطن.