الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

"ناري.. الملك جاي"

"ناري.. الملك جاي"

في أحد مشاهد الفيلم الكوميدي المصري الشيق "زواج بقرار جمهوري" للمخرج خالد يوسف، يظهر عمال البلدية وهم منهمكون في تبليط شوارع حي فقير (قلعة الكبش) وتطهيره من القاذورات وإنبات الشجر وإماطة الحجر وطلاء المنازل، بل ذهب الأمر بالمسؤولين إلى حد تغيير اسم الزقاق الذي يقطنه البطل "هاني رمزي" والبطلة "حنان التركي" بعدما انتهى إلى علمهم أن رئيس الجمهورية استجاب لدعوة البطل لحضور زفافه. وفي مشهد ثان، يظهر هؤلاء المسؤولون وقد انتهى إليهم أن حفل العرس تقرر نقله من الحي الشعبي -لدواعي أمنية- إلى أحد الفنادق، وهم يعطون أوامرهم لعمال البلدية لإنهاء الأشغال واقتلاع الأشجار ونزع الزليج من الرصيف وإعادة الحي إلى سابق عهده، وإلى سابق اسمه وقاذوراته.

هذه الصورة الكاريكاتورية التي تثير السخرية تكاد تكون قاعدة مغربية قديمة عاشها المغاربة في عهد الراحل الحسن الثاني ويعيشون تفاصيلها، الآن، في عهد الملك محمد السادس. فكلما انتهى إلى علم المسؤولين، في هذه المدينة أو تلك، أن الملك سيقوم بزيارة لحي أو زقاق، لا يستريحون إلا وقد أصبح الجحيم، في رمشة عين، جنة بأشجار وارفة ونخيل وشوارع مبلطة وواجهات لامعة ورايات وأقواس وهتاف. وما إن تنهي الزيارة حتى يستعيد الجحيم ملامحه من جديد، وكأننا أمام قافلة سينمائية مكلفة بنصب ديكور الزيارة الملكية وتفكيكه حال مغادرة الملك إلى حال سبيله.

لم يعد المغاربة، لشدة حنقهم، يكترثون للأمر؛ فقد تعودوا على ذلك حتى أصبحت العادة قانونا، وكثيرا منهم لا يرى في الأشغال المصاحبة للزيارات الملكية سوى ماكياج رخيص سرعان ما يمحى ولا تبقى منه إلا أثار الخراب والتخريب الذي تباركه السلطة.

لقد بحت أصوات المواطنين والجمعيات والصحافيين لحمل هؤلاء المسؤولين على إنهاء التحايل واحتقار نضج المغاربة، غير أنهم لا يأبهون لا لله ولا للملك ولا لشعبه ويواصلون "لعب السينما" على الشعب وعلى رئيس الدولة، علما أن الملك قد اختار تقنية المباغتة والقفز على المعادلة الأمنية، كما هو الحال في الواقعة التي عاشها سابقا إقليم خنيفرة، أو ما حدث في الحسيمة من قبل أوبكاريان الغابة بإقليم النواصر... إلخ، ليرى بأم عينه أطنان التقارير الكاذبة التي تتكدس فوق مكتبه قبل كل زيارة وبعدها.
لقد حان الوقت ليقطع هؤلاء المسؤولون مع عقلية "البريكولاج" والتدبير العشوائي والعابر لمرافق المدن، لأن حادثة "الزواق" و"الزفت المغشوش" بالدار البيضاء أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الدار البيضاء تحولت بفعل الإهمال إلى مقبرة للحديد والغبار، وأن المسؤولين عن تدبيرها لا يصلحون لشيء سوى تقديم استقالتهم والانسحاب من الملعب بقليل من الشرف إن كانوا يستوعبون، فعلا، ما هو الشرف!

فالمغرب يضم 1503 جماعة وإذا اعتمدنا منطق "ناري.. الملك جاي" لتحقيق تطلع كل مغربي في رؤية شوارع الأحياء نظيفة وحركة مرور منسابة وأشجار مشذبة وطوار مصبوغ وساحات نقية وأمن مزروع في كل زقاق، فمعنى ذلك أن على كل جماعة أن تنتظر دورها ليزورها الملك ليشمر المسؤولون المنتخبون والمعينون عن سواعدهم لتلبية الحاجيات الدنيا للمواطنين، وهذا ما لا يستسغيه أي عقل لأن مجرد برمجة زيارة ملكية لكل جماعة يتطلب 1503 يوما أي أربع سنوات بالتمام والكمال وهو ما يدخل في باب احتقار الحكومة ومجالسها ومصالحها الخارجية لذكاء المغاربة واستبلاد نضجهم.
فالمغرب يتوفر على 1503 رئيس مجلس محلي وعلى 16 رئيس جهة وعلى 83 رئيس مجلس إقليمي وعلى 24 ألف منتخب محلي وعلى 17 والي وعلى 83 عامل وعلى 3000 رجل سلطة وعلى 2739 مندوب مصلحة خارجية بـ 83 عمالة وإقليم وعلى 83 قائد أمني (والي أمن، رئيس منطقة، قائد جهوي للدرك). وكل هذه الآليات وضعت رهن إشارتها 154 ألف موظف جماعي و50 ألف شرطي و20 ألف دركي و50 ألف مخزني و39 ألف عون سلطة و600 ألف موظف مدني.

فلماذا تعطلت هذه الآليات وتكلست ولا تبرز "حنة يدها" إلا حينما يحل الملك بمدينة معينة؟ ما الجدوى إذن من إتفاق 200 مليار درهم كل سنة على الأجور و"ليصانص" و"طوموبيلات" و"الكليماتيزور" وعلى صيانة المباني و"البابراص الخاوي" بهذه الإدارات إن لم ينعم المغربي بجودة عيش في وسط حضري نظيف ومضاء وآمن وجميل وبيئي؟

إن الدار البيضاء التي "تتزوق" بعد تحرك المسؤولين بحلول ملك البلاد تعيش اليوم -وهذا مجرد مثال- على إيقاع قنبلة من شأن الاستمرار في التواطؤ على إخفائها تهديد حياة 72 ألف أسرة تقطن في الدور الآيلة للسقوط (أي ما يمثل 360 ألف نسمة). فرغم التعليمات الملكية الصارمة الصادرة في ماي 2012 لاتخاذ الإجراءات لتفادي فواجع في هذا الباب، فإن الحكومة لم تتضمن في قانون مالية 2013 أو 2014 ما يفيد حسن نيتها لإبطال هذه القنبلة بالبيضاء كما أن مخططها التشريعي تجاهل هذا الموضوع إطلاقا، ربما لأن القاطنين بهذه الدور لا يتوفرون على ودائع بأبناك غربية لتمويل حملات انتخابية للأحزاب بطرق ملتوية.

إن الدار البيضاء تشهد اختناقا مروريا رهيبا لا يرتاح المواطن من صداعه إلا حينما يكون الملك بالمدينة بشكل يزيد من حنق الساكنة التي لا تفهم سبب هذا النفاق الذي تباشره السلطة العمومية في هذا المجال وكلما سئل مسؤول عن السبب يرمي باللائمة على هذا الجهاز أو ذاك.

إن الدار البيضاء تعاني حصارا شديدا في الأحياء والشوارع بسبب فظاعات الباعة المتجولين الذين أعلنوا عمالة الفداء "إمارة مستقلة لهم" بعد أن احتلها 13 ألف بائع متجول طوقوا أهم محور طرقي بالقارة الافريقية (شارع محمد السادس)، وهو الشارع الذي لا يحرر إلا حينما يحل الملك بالمدينة!
إن هؤلاء المسؤولين الذين لا يتحركون ولا يبادرون ولا يشتغلون إلا بمنطق "ناري.. الملك جاي" ينبغي أن يحالوا على المعاش، وأن يشطب عليهم بصفة نهائية من لائحة المدبرين، لأن الكسل فيهم طبع، والطبع فيهم غالب و"ذيل الكلب ما يتكاد ولو داروا فيه قالب»، كما قال الشاعر الشعبي.

استنبات النخيل بشارع 10 مارس بالدار البيضاء