الاثنين 20 مايو 2024
سياسة

الدروس الحسنية، من المولى إسماعيل إلى الملك محمد السادس

 
 
الدروس الحسنية، من المولى إسماعيل إلى الملك محمد السادس

في كل شهر رمضان، من كل عام، تنظم في المغرب مجالس دينية تسمى بالدروس الحسنية نسبة إلى الملك المغفور له الحسن الثاني، وهي دروس انتشر صيتها في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وطبعت هذه الدروس بطابع شهر رمضان في المغرب. إذ أنه أصبح لا يتصور أن يمر على المغرب شهر رمضان بدون أن تكون هناك دروس حسنية. هذه الدروس عرفت انتشارا كبيرا وإشعاعا دينيا تخطى حدود الدولة المغربية إلى جميع أصقاع العالم الإسلامي، وساهمت بدون شك في تخليد اسم الراحل الحسن الثاني..

ديبلوماسية دينية وإشعاع حضاري مغربي

تاريخيا عرفت هذه الدروس مراحل من الإشعاع والخفوت، وحظيت بعناية خاصة في عهد الدولة العلوية، حيث أقيمت في عهد السلطان المولى إسماعيل، وهو سلطان مغربي من سلالة العلويين 1672-1727، وفي عهده كانت الدولة العلوية في المغرب في أزهى أيامها، وانتقلت عاصمة المغرب آنذاك من مدينة مراكش إلى مدينة مكناس. وكان هذا السلطان يكرم العلماء ويقوم بتعظيمهم من خلال مجالس علمية في رمضان تناقش فيها أمور الدين والشريعة وعلم الحديث والفقه وعلوم التفسير وغيرها من العلوم الدينية، وذلك لإعادة الاعتبار إلى أصول الشريعة الإسلامية. وانتقلت هذه العادة عبر سلاطين الدولة العلوية حتى وصلت إلى عهد السلطان الحسن الأول 1873-1894 وتألقت في عهده حيث كان يقيم الدروس الدينية خلال شهر رمضان في قصره، وكان معروفا بحبه وتقدير وتكريمه للعلم و للعلماء والمعرفة. وسار الملك محمد الخامس رحمه الله 1927-1961 على نفس خطى أسلافه، فكان يحيي في كل شهر رمضان الدروس العلمية الحديثة التي كانت تحضرها نخبة مهمة من العلماء في المغرب، وكان يتم دراسة الفقه والشريعة كتب صحيح البخارى ومسلم..

وكانت هذه الدروس تعقد أيضا في مساجد وزوايا مدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية، حيث كان لها الأثر البارز والمهم في تحدي السياسة الاستعمارية التي كانت تنتهجها فرنسا في المغرب التي كانت تروم ضرب المقومات الدينية والوطنية والقومية للمغرب. وحين تقلد العاهل المغربي الملك الحسن الثاني رحمه الله 1929-1999 مقاليد الحكم، ورث عن أجداده هذه السنة، وقام بالمحافظة عليها وجدد في شكلها وتوجيهها، وقام بإعادة التألق والإشعاع إليها، وسماها الدروس الحسنية. وكان للراحل الحسن الثاني بصماته الواضحة على هذه الدروس جعلت منها تطبع بطابع شهر رمضان من كل عام في المغرب..

فبعد أن كانت الدعوة مقتصرة على العلماء والفقهاء من داخل المغرب لإلقاء الدروس الحسنية في الستينات من القرن الماضي، أمر الملك الراحل بتوسيع وعاء ضيوفها وأصبح لها إشعاع عربي ودولي بارز عندما بدأ يستدعى لها نخبة من العلماء والفقهاء والمحدثين من مختلف الأصقاع الإسلامية المنتمين للقارات الخمس.. وفتحت الأبواب أمام جميع العلماء من مختلف المدارس والمشارب الفكرية الفقهية في العالم الإسلامي ليعتلون المنبر أمام الملك في قصره أو في أحد مساجد المملكة يلقون الدروس المقررة.. وكان يحضر إلى جانب الملك الأمراء وأعضاء الحكومة يتقدمهم رئيس الحكومة ورئيسا مجلس النواب والمستشارين ورؤساء الفرق البرلمانية وأعضاء الدواوين الوزراء وكبار ضباط الجيش ومسئولو الدولة، فضلا عن العديد من الشخصيات العلمية والثقافية التي عادة ما توجه لهم الدعوة في هذه الدروس. إلى جانب ذلك يحضر أعضاء السلك الدبلوماسي العربي والإسلامي في المغرب الدروس الحسنية يصغون لصاحب الدرس الذي يكون من الراسخين في العلم، والذي يختار موضوعه ويلقيه بكل حرية ودون أي حرج من إثارة النقاشات، ومتمتعا بالحصانة من أي اعتراض أو أي تعقيب من الحاضرين ..

ومما يزيد من الأمر شفافية أن هذه الدروس يتم نقلها على الأثير مباشرة عبر أمواج الإذاعة وشاشات التلفزة المغربية دون تدخل مقص الرقيب.. وبالتالي تصبح الدروس الحسنية بمثابة ندوة إسلامية عالمية تشع منها الفيوضات الرحمانية والبركات والعطاء في شهر الصيام وتجمع شمل المسلمين وتقرب في ما بينهم ويعم خيرها الرباني على الجميع.

البعد العالمي للدروس الحسنية

تستقطب الدروس الحسنية الرمضانية كوكبة من أنجم وألمع العلماء المحدثين والمشايخ والدعاة والقراء وأصحاب الفكر من شتى أنحاء العالم. فمن العلماء المغاربة الفطاحل الذين نوروا الأفكار بعلمهم الغزير خلال إلقائهم هذه الدروس نذكر: العلامة علال الفاسي، ومحمد الأزرق، الرحالي الفاروقي، ومحمد فاضل بن عاشور التونسي، وسيدي عبد الله كنون، وأحمد عبد الرحيم عبد البر المصري، وحسن الزهراوي، ومولاي عبد الواحد العلوي، والمكي الناصري، عبد الله الجيراري، والدكتور فاروق النبهان، والدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، والدكتور فريد الأنصاري، والعلامة الدكتور أحمد التوفيق، وغيرهم... ومن مشاهير العلماء من الدول العربية والإسلامية نذكر: الشيخ أبو الحسن الندوي، والإمام المجدد أبو الأعلى المودودي من الهند، الدكتور عبد الصبور شاهين، والشيخ محمد سعيد طنطاوي، والشيخ متولي الشعراوي، والشيخ يوسف القرضاوي، وشيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق، من مصر، والشهيد الشيخ صبحي الصالح، والإمام المغيب موسى الصدر من لبنان، والشيخ محمد طه الصابونجي مفتي طرابلس في لبنان، والشيخ عبد الله بيه من موريتانيا، والعلامة المجاهد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشهيد الدكتور سعيد رمضان البوطي من سوريا، والدكتور عمر البشير رئيس السودان حاليا، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة ومفتي تونس السابق والأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي من السعودية، وغيرهم من العلماء، واللائحة طويلة جدا وهم يعدون بالعشرات، بل بالمئات....

والجدير بالذكر أن الملك الراحل الحسن الثاني كان عمد بنفسه إلى إلقاء بعض الدروس الرمضانية حول الإسلام والأديان السماوية الأخرى وعن أنبيائها ورسلها، وأيضا كان مجتهدا في علوم التفسير مبرهنا على قدرته الفائقة في طرق أبواب الاجتهاد وفي مجاراة جهابذة العلماء والفقهاء في الفكر الإسلامي. إذ أنه رحمه الله كان يتمتع بشخصية علمية دينية ودنيوية قل نظيرها بين زعماء العالمين العربي والإسلامي. وكان يحضر الدروس أيضا علماء كبار من الهند وأميركا وروسيا والصين وأوروبا وإفريقيا تعطي بعدا عالميا وإشعاعا دينيا كبيرا لهذه الدروس وتجعل لها مكانة متميزة. وفي هذا الصدد نذكر أن رئيس جمهورية المالديف مأمون عبد القيوم الذي حرص أن ينضم بنفسه إلى كوكبة العلماء الذين كان لهم شرف إلقاء الدروس الحسنية حول موضوع "الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة" كان ذلك في العام 1993. هذه الأسماء التي كانت تحضر الدروس الرمضانية الحسنية، وتأتي من جميع أنحاء القارات ومن جميع الجنسيات وتعتنق مختلف المذاهب والفرق الإسلامية، جعلت من هذه الدروس أكبر مدرسة في العالم الإسلامي تتيح لهؤلاء العلماء أن يجتمعوا في مودة وصفاء ويتعارفوا ويتبادلوا الآراء للإسهام في لملمة الصف الإسلامي المترهل الذي يعاني من الفرقة والشقاق والتعصب الطائفي والمذهبي. كما يحضر هذه الدروس ممثلو العديد من الأقليات الإسلامية في العالم الإسلامي ورموزها في مختلف القارات، فتكون مناسبة للتعرف على أوضاعهم وأحوالهم وهمومهم والتعرف على احتياجاتهم والظروف التي يمارسون فيها شعائرهم وإعطائهم الفرصة للتعبير عن متطلباتهم في ما يعرف بفقه الأقليات.. ومن أجل إعطاء هذه الدروس الإشعاع العالمي المطلوب تقوم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بترجمة هذه الدروس إلى اللغات العالمية الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ونشرها في كتب وأقراص مدمجة، وتوزيعها لإغناء المكتبة الإسلامية والغربية في العالم بمادة علمية رصينة تعود بالنفع على المطلعين والباحثين في أمور الدين الإسلامي الحنيف .

الدروس الحسنية في عهد جلالة الملك محمد السادس

عندما اعتلى جلالة الملك محمد السادس العرش إثر وفاة والده الملك الحسن الثاني عام 1999 تشبث الملك بسنة أجداده، وعمل على المحافظة على الدروس الحسنية واستمراريتها وتطويرها وترك تسميتها كما هي وفاء لاسم والده الراحل الحسن الثاني، لما لهذه الدروس من أهمية في إعطاء المغرب بعدا آخر في التميز بهويته الدينية للحفاظ على الإسلام الوسطي بدون أن يمنع ذلك من الانفتاح على إمكانات وأفكار جديدة... بل إن الملك محمد السادس أضاف إليها بصمته الخاصة حسب ما تقتضيه متطلبات العصر، وهو انفتاحه لأول مرة على رموز الحركة الإسلامية بالمغرب من خلال دعوة الدكتور أحمد الريسوني رئيس حركة التوحيد والإصلاح لإلقاء درس ديني بين يدي الملك الشاب. بالإضافة إلى الانفتاح على رموز الجاليات الإسلامية المغربية بالخارج، حيث أصبح يدعى إلى هذه الدروس رؤساء الجاليات الإسلامية والجمعيات والمراكز الثقافية الإسلامية المغربية بالخارج. وتقديرا واعترافا بدور المرأة المغربية وتعزيزا لمساهمتها الفاعلة في البناء الديمقراطي والتنموي، أسوة بأخيها الرجل، وهو ما يؤكد عليه جلالة الملك محمد السادس في جميع خطاباته على دفع المرأة في المشاركة في قاطرة التنمية البشرية، تم إشراك العالمات المغربيات في إلقاء الدروس الحسنية، وكان ذلك أهم تحول شهدته هذه الدروس منذ انطلاقها مع الملك الراحل الحسن الثاني. حيث عمل الملك محمد السادس، في عام (2003)، باستضافة العالمة الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، الأستاذة بكلية الحقوق جامعة محمد الخامس، لإلقاء درس بعنوان "النظام الأسري الإسلامي مقارنة بما عليه الوضع الأسري في المجتمعات الغربية"؛ وتعتبر العالمة الدكتورة رجاء الناجي أول امرأة تعتلي المنبر وتلقي درسا أمام قائد دولة في كل العالم العربي الممتد من المحيط إلى لخليج .

ومنذ ذلك الوقت، توالت الخطيبات والعالمات المغربيات على منابر الدروس الحسنية، حيث يجلس الملك بتواضع فوق الأرض، وتعتلي المرأة المنبر، وتقوم بإلقاء الدرس الديني أمام الملك وكبار الفقهاء والعلماء. وهذه الاستضافة للمرأة المغربية اعتبرت، بحق، منعطفا كبيرا واعترافا جميلا بالنسبة لقدرات المرأة المغربية على الإدلاء بمعارفها في مجال الفقه والعلوم الشرعية لاسميا وأن هذه الدروس تلقى أمام علماء أجلاء من المغرب والعالم الإسلامي كما أسلفنا.. وهكذا توالى إشراك العالمات المغربيات في إلقاء الدروس القيمة، إذ ألقت، في رمضان الموالي عائشة الحجمي، وهي أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض (مراكش)، درسا بعنوان "الاجتهاد في المسألة النسائية"، ثم تلتها فريدة زمرد الأستاذة بدار الحديث الحسنية بإلقاء درس حول "المرأة في القرآنيين الطبيعة والوظيفة". واحتلت السعدية بلمير، وهي مستشارة بديوان وزير العدل، المرتبة الرابعة في سلم إلقاء الدروس الحسنية أمام الملك حيث ألقت درسا بعنوان: "حركة التقريب بين المذاهب: منطلقاتها وآفاقها المستقبلية". وبعد ذلك استمع أهل العلم والفكر من المغرب وخارجه لعالمة شابة رئيسة المجلس الجهوي للحسابات بمدينة الرباط زينب العدوي لدرس قيم عالجت من خلاله نقطة مهمة وحساسة في الاقتصاد الإسلامي ألا وهي: "حماية المال العام في الإسلام". بينما ألقت بعدها سعيدة أملاح درسا بعنوان "عناية المغاربة بلغة القرآن الكريم". إضافة إلى إلقاء الأستاذة عالية ماء العينين محافظة خزانة المعارف الجهوية بالدار البيضاء، التابعة لوزارة الثقافة، هذا الدرس الحسني، وتناولت فيه بالتحليل موضوع "مكانة الأم في الإسلام ودورها في نقل وترسيخ قيم المواطنة"، وأيضا كانت سعاد رحائم، أستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة وعضو مجلسها العلمي المحلي، هي المرأة السابعة التي تلقي درسا في حضرة الملك، حيث ألقت درسا بعنوان "أشراط الساعة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف". إذن هو الاستثناء المغربي الذي يفرض نفسه باستمرار.

سنة حميدة انفردت بها المملكة المغربية وتميزت بها دون سائر بلاد المسلمين، إنها دبلوماسية المغرب الدينية، والتي هي محط إشادة من جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية في ضرب جذور التطرف والكراهية والإرهاب.

تلك هي الدروس الحسنية الرمضانية التي يحتضنها المغرب منذ القدم، حيث أصبحت مؤسسة قائمة بحد ذاتها وأضحت نقطة مضيئة للتواصل والتقارب وترسيخ لغة الجدل والحوار بين مختلف ألوان الطيف الإسلامي ومحطة لعشرات بل مئات العلماء والفقهاء من مختلف ارض الله الواسعة يتدارسون خلالها شؤون وشجون الأمة الإسلامية. وهي سنة تعيد ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد أيام المسلمين الأولين بحضور الخلفاء والأمراء والملوك، تجمع العلماء وتكرمهم وتعلي من شانهم. أليس العلماء هم ورثة الأنبياء ويجب تبجيلهم والإشادة بهم والتعريف بهم حتى يكونوا نبراسا يتم السير على خطاهم ويتم الاقتداء بعلمهم والحرص على دورهم في تحصين الانحرافات الدينية ..

لقد أصبحت الدروس الحسنية مؤسسة إسلامية دستورية قائمة بحد ذاتها في المغرب ولدت من رحمها العديد من القرارات الهامة، منها إنشاء دار الحديث الحسنية، وهو معهد ديني يعني بعلم الحديث، وأيضا صدور التوجيهات الملكية بالاهتمام باللغة العربية وختم القران الكريم خلال شهر رمضان المبارك، كما أنشا الملك محمد السادس إذاعة محمد السادس للقران الكريم تبث على مدى أربعة وعشرون ساعة.

إن الاهتمام الفائق بمسيرة الدروس الحسنية من قبل الملوك المغاربة على مر العصور يندرج تحت عنوان رئيسي: الحرص المغربي على هوية المغرب الدينية وتبصير الناس بالمعاني السامية للإسلام الوسطي ومنهجه القويم الذي يعطي للعقل منزلته دون تطرف أو غلو وفرصة لتمتين الروابط والوشائج بين علماء المسلمين كافة.

الدكتورعياد جلول ـ باحث وكاتب لبناني

عن موقع "وجدة زووم"