الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

الحوتي: جاد الدم والغفران.. قراءة احتضان!

الحوتي: جاد الدم والغفران.. قراءة احتضان! نورالدين الحوتي
ليس يسيرا أبدا أمر إنجاز قراءة نقدية لرواية من إبداع صديق..!
بيد أنني سأمضي في هذه المهمة، باطمئنان متسلحا بـ"يقين".. و"حق" و"منهج"..
أما اليقين، فأساسه أن صاحب الرواية مستغن -كما كان دائما- عن  كل متكلف مجاملة أو زيف إطراء، كما أن العمل محام عن نفسه، ولا يحتاج لمن ينتصب للترافع عن جمالياته الفنية أو قيمته الإبداعية...
أما الحق، فهو حقي في حيازة سلطة القارئ..
أما المنهج، فيقوم على تصريف القول بقراءة بنيوية خالصة (كما بسطها رولان بارت)،  تسمح لي بالمسافة اللازمة لحيادية الحكم، والبراءة من جرح الشهادة.
أولا، وبشكل عام، نسجل أن  "رواية الجاد".. (وليغفر لي كاتبها  هذه التسمية الموازية)، تنتمي على مستوى التجنيس، لما يصطلح على تسميته في التقليد الأدبي والسردي الغربي بـ les/las novellas، وقد اشتهر  في الأدب الإسباني أكثر من غيره، كما  هو واضح من الاسم.
إن هذا النوع من الروايات؛ وهو ما أحاول أن أثبته هنا  بحق رواية الجاد، تتميز بقصرها فيما يتعلق بالحجم، وبتكثيفها للأحداث والتركيز على واقعة منفردة بعينها، حولها تُنسج خيوط النص وتُحبك.. وما يقع من تفريعات لا يعدو كونه أحد أمرين في الغالب: إما استرجاعات  Flash back أو مونولوغات Monologues. 
إن هذا المسلك في التأليف الروائي، يندرج في إطار ما يسمى بالسهل الممتنع، فعملية "التخصيب" التي تستهدف الحدث المركزي المكثف (زمانا= لقاء بين جاني وصاحب ثأر، ومكانا= غرفة) عادة ما تكون في غاية الصعوبة، وتحتاج دربة لغوية من نوع خاص..
في رواية "جاد: الدم والغفران"، نجح الكاتب في بناء عالم  روائي من هذا الفضاء المكثف زمانا ومكانا وحتى شخوصا، وشبك حوارا تردديا محتدما حينا، وهادئا حينا آخر، وهو حوار أغلبه دائر بين شخصيتين من شخوص الرواية (جاد والعجوز الجاني المحترف قديما، مع بعض الجيوب الأخرى المغذية للبنية العامة...) 
إن هذا الاختيار لئن سمح للكاتب بفتح أقواس خصصها لوصف أعماق شخصياته، ونثر كثير من  معارفه في مختلف التخصصات (معارف طبية وأخرى تهم تاريخ وجذور الواقع اللبناني مثلا...)، إلا أنه أسقطه وهو بصدد كل ذلك، في "لغة مباشرة" تمنع عن النص أو بالأحرى تشوش عليه باقي ميزاته الأخرى.  
وهنا أسمح لنفسي بالخروج عن مقتضيات المنهج الذي اخترته لهذه القراءة، وأستعين بمعرفتي بالكاتب لأقول:
لعل الكاتب إبراهيم مراكشي، لم يغادر (تمام المغادرة) في هذا العمل، "شرنقة لغة القانون" الذي هو مجال تخصصه الأصلي؛ فاللغة الأدبية أوسع من الخطاب المباشر للغة القانون الجافة بكثير، وهذا يجرنا إلى مسائل في غاية الأهمية. 
على المستوى اللغوي،  قد  ينسب هذا إلى السرعة في  إنجاز النص، وهذا ما يضعنا في مواجهة سؤال العلاقة الجدلية بين المدة الزمنية لكتابة الرواية وجودتها وعمقها، وفي الجواب عن هذا السؤال توجهات وتفضيلات...
إن هذا النوع من النصوص السردية، يواجه بواقع مُقصِ هو الذي بات يشكل الذائقة العامة في الكتابة ومعها القراءة بالتبع. 
معلوم أن الكتابة الروائية وإن ظلت التيارات التجريبية هي التي تغذيها منذ إعلانها جنسَ الأجناس، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن ثمة مدارس بعينها هي التي تهيمن على الإبداعات الروائية، وتظل الأكثر حظوة لدى القراء ومكانة..(الرومانسية، الواقعية، النفسية، التاريخية..) 
إن هذه التوجهات الثلاثة يجمعها سلك ناظم ومفهوم مركزي هو "العمق"، فبدون هذا الأخير يكون الروائيون الذين يختارون المسالك التعبيرية الأوضح والأبسط، في متناول سهام "تهمة السطحية".. 
إن الوضوح والبساطة وإن كانا مطلوبين، (وليسا بالأمر السهل طرا) إلا أنهما لا يعوضان ما يبتغيه القارئ في الأعمال الأدبية عموما، من مطبات وكسر لأفق الانتظار ونحوهما...
إن قارئ الرواية اليوم  (والرواية خصوصا)،  قارئ "مشترط" "متطلب" بل "مدلل"؛ فبحكم ما هو متاح أمامه من خيارات، بات يطالب بالرواية التي يكون "مشاركا في إنتاجها" !... رواية تسمح له، بل تفرض عليه وهو يقرأها، أن  يتبنى مواقف أن يثير تساؤلات أن يستنكر ويندد  ويستغرب.. أن يضحك ويبكي، أن يسب كاتبها، أن يمزقها ثم  يعيد  لزق ولمَّ أوراقها لاستئناف قراءتها... في كلمتين: أن ينفعل ويتفاعل.
بقيت لي أن أشير إلى مسألة اعتقد أنها جوهرية.. 
لا يمكن الجدل في أن لمؤلف الرواية  التي نحن بصددها، قدرة يمكن أن يفخر بها على الحكي والاسترسال فيه، بيد أن المحطات الدراماتيكية في المتن الروائي عموما، تحتاج لنفس خاص، وفضلا عن ذلك، وبالنظر لمفصليتها في النظم العام، فهي تحتاج لمنطق في جريانها، حتى تٌستوعب من جهة، وحتى يتأسس على قواعدها البنيان اللاحق.
أقول هذا لأمهد به لملاحظة تتعلق بـ"واقعة وانعطافة الغفران" في رواية الجاد؛ (لا أخفي أنني ناقشت  صاحب  الرواية في هذه النقلة)... 
 حقيقة لقد استغربت النقلة ولا زلت، متسائلا: كيف لشخص  ارتكبت في حقه أو في حق  مقربين منه  فظائع من هذا القبيل، أن يصفح عنها فيكون صدره في فقرة، أتونا متأججا، وفي الفقرة أو الفقرات القليلة التي تليها مفعما بالغفران مترعا بالتسامح؟
لا يمكن أن أفهم هذا أو يستقيم في بناء أحداث عمل أدبي، إلا إذا كان مؤلفه يميل إلى أن الأحاسيس  الكبرى والغفران  منها، ليست مجالا لمفاصلات ولا لحسابات...
إن هذه "الملائكية"، قد لا يجد الكاتب من يشاطره إياها، ولا من هو مستعد للتصديق باحتمال وقوعها.
ختاما إن الشذرات الوارد أعلاه، هو آراء/ وتقديرات شخصية لقارئ لا يضمن له عشقه لفن الرواية، أن يكون مصيبا فيها كلها ولا حتى في بعضها، كما لا يجعلنا كل ذلك ننسى التأكيد على أن القراءة المنجزة، قائمة على الأخذ بعين الاعتبار، حداثة عهد التجربة الرواية للكاتب إبراهيم مراكشي، فكل  ما يسطر أو يقال، إنما هو من باب تسديد التجربة واحتضان المشروع والإيمان به وبصاحبه.