الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

وحيد مبارك: دموع بانون ودروس وليد .. حين تُعالج الجراح وتُبنى العزيمة

وحيد مبارك: دموع بانون ودروس وليد .. حين تُعالج الجراح وتُبنى العزيمة وحيد مبارك

لم يكن مونديال قطر حدثا رياضيا فحسب، ولم تقف رسائله عند الحدود الكروية فقط، فهذه المناسبة العالمية كانت حبلى بالدروس التي يجب أن تستشفّ معانيها، وتُفهم مضامينها، وتُستوعب خلاصاتها، بكل الدلالات في مختلف المستويات، فقد تقاطع فيها ما هو قيمي بما هو وجداني وإنساني، والتقى فيها ما هو رياضي بما هو اجتماعي، بل أن حتى السياسي حظي بدوره بحيّز من النقاش وشكّل أحد الاهتمامات المشتركة.

يقول أنطوان تشيخوف، الطبيب والكاتب المسرحي الروسي، في إحدى أقواله الشهيرة "حين أكتب لكم عن أشياء محزنة، لا أريدكم أن تبكوا، بل أريدكم أن تعملوا على تغيير أقدار تلك الأشياء"، وقد دوّن لنا مونديال قطر العديد من الكتابات وترك لنا مجموعة من الصور والتسجيلات والتصريحات التي تعتبر مرجعا ودروسا للتأطير وللتكوين ولتقوية الهمم، التي يمكن قراءتها انطلاقا من اليوم أو في أي مرحلة من المراحل القادمة، التي تختلف مضامينها فقد توثق للحظات سعيدة تارة ولأخرى حزينة تارة أخرى، والتي تُرجمت إلى دموع على خدود أصحابها، حين عبّرت عن فرح أو عن ألم، بحسب اللحظة ونتائجها.

إلا أن بعض هذه "الكتابات" التي نُقشت بمداد من الدموع في هذا المونديال لم تكن دائما "محايدة"، إذ حملت في بعض الأحيان في قلب الفرح حزنا، وفي طيّ السعادة ألما، وبيّنت على أن الصمت لا يخل بالضرورة من تصدّع، وبأن القوة قد تعاني ضعفا، وبأن الابتسامة قد تخفي جبلا من الألم كالحيّز الأكبر من الجليد المتواري في القعر، وبأن كل شخص يحتاج إلى بلسم لجروح، قد يكون بعضها ظاهر والبعض الآخر مستتر. جراح تلتهم الإنسان التهاما، كألسنة اللهب المستعرة، ومع ذلك يحاول أن يقف شامخا وصامدا في مواجهة حريقها، وهو ما عبّرت عنه دموع أسد الأطلس بدر بانون، وهو يدلي بتصريح يكشف فيه عن آلام ومعاناة كبيرة، كانت ستدفعه ليضع حدا لمسيرته، لولا أنه وجد الحب والاحتضان، وتم منحه الأمل فزُرع في قلبه الاطمئنان، وعاد من بعيد ليبصم على حضور مشرف في هذا المونديال إلى جانب باقي أسود الأطلس.

لقد كشفت لنا دموع بانون في سجل مونديال قطر، عن مضامين درس آخر إلى جانب كل الدروس الأخرى التي قدمها المنتخب المغربي بمدربه وطاقمه ولاعبيه وأسرهم، ومعهم الجمهور المغربي في هذا الحدث العالمي. لقد "كتب" بدر، بتعبير تشيخوف، عن "أشياء محزنة"، وهو يبكي، وغيره ممن تابعوه عن بعد كان عدد منهم بالتأكيد يذرفون الدموع معه، وإن كانت الرسالة "لا تريد بكاءنا، وإنما تريد أن نعمل على تغيير أقدار الأشياء"، وتطلب منا أن نحوّل لحظات الضعف إلى قوة، ومحطات الألم إلى أمل، وأن نواجه الوجع وننتصر عليه ولا ندعه يهزمنا. درس آخر لا يعني بدرا لوحده، فتفاصيله الحزينة قد نجدها في قلوب الكثيرين وفي أنفسهم المجروحة، الذين أخفوا وجعهم وابتسموا في وجه الكلّ لكي يدب التفاؤل وتقوى العزائم، لكن بانون بتصريحه العفوي، جعل البعض منا يستفيق وينتبه إلى هذه التفاصيل، وهو يخاطبنا ويذّكرنا إن كنا قد نسينا أننا في لحظات الوهن نكون في حاجة إلى منقذين، إلى أصحاب قلوب طيبة، إلى أشخاص يتعاملون بمنتهى "النية"، فيضمّوننا إليهم، يأخذوننا بين أذرعهم، ينصتون إلينا، يكفكفون دمعنا، يلملمون جراحنا، ويكونون بلسما لجراحنا ودواء وشفاء لأمراضنا.

في هذا المونديال، لم يكن وليد الركراكي، ناخبا وطنيا ومدربا للمنتخب فقط، بل كان أبا وأخا وصديقا للجميع، لكل من تواجد في "رحلة قطر" وفي قلبه غصّة أو قهر، لكل من كان يحسّ بالألم والوهن وبأن شيئا ما ينقصه في هذا السفر. لقد كان وليد إطارا ومؤطرا، طبيبا ومعالجا، دعا إلى تغيير العقليات، وإلى احتضان وتشجيع الطاقات، وللإيمان بالكفاءات، رفض نشر السلبيات وشدد على فسح المجال عوضا عن ذلك للإيجابيات. خاض وليد وأسوده المباريات، الواحدة تلو الأخرى بهدوء وعقلانية بعيدا عن خطاب التهوين والتهويل، ووضع ثقته في كل الأسود دون استثناء، ضدا عن التنمر والسخرية والاستهزاء، وكأن لسان حاله يردد، بشكل أو بآخر، ما قاله تشيخوف أيضا "إياكم والسخرية بكرامة الناس، إذا لم يكن في وسعكم أن تحترموها فاعفوها على الأقل من اهتمامكم"، وكان بذلك لكل أسد من أسود الأطلس دوره، سواء داخل أو خارج رقعة الملعب، إلى أن وصلنا إلى مرحلة النصف، ثم الترتيب، فخروج مشرّف من قطر، يكتب بمداد من فخر، في صفحات أمجاد البلاد، بعدما تحولت هذه المشاركة إلى سجل حافل بالإنجازات، كرويا، إنسانيا، أخلاقيا، قيميا وعلى كافة المستويات، واستطاع منتخبنا الوطني بلاعبيه أن يزرعوا الفرحة والبهجة في قلوب الملايير وليس الملايين من البشر، الذين تابعوا ملاحم أسود الأطلس في قطر، وهم يتغنون بما حققوه بكثير من الفخر.