الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

عبـد القـادر الـزاوي: في العلاقات مع إسرائيل.. لا للتخوين ولا للتهليل

عبـد القـادر الـزاوي: في العلاقات مع إسرائيل.. لا للتخوين ولا للتهليل عبـد القـادر الـزاوي

تتجاذب الرأي العام العربي فيما يتعلق بطبيعة العلاقات مع إسرائيل مواقف متعددة أبرزها تلك التي تقف على طرفي نقيض متأرجحة بين موقف الرفض المطلق لأي علاقات مع الدولة العبرية تحت أي ظرف من الظروف وفي أي وقت من الأوقات، وبين موقف الانفتاح الكامل على تل أبيب وتعميق الصلات معها بغض النظر عن الاعتبارات التي كانت تحول دون ذلك، وخاصة القضية الفلسطينية، التي يرون إمكانية معالجتها على صعيد مسارات أخرى.

 ينطلق أصحاب الرفض المطلق من اعتبار إسرائيل كيانا شاذا وغريبا في المنطقة وظفت في سبيل إنشائه الأساطير الدينية، والمناورات الدبلوماسية، واستخدمت لتحقيق قيامه مختلف وسائل الترغيب وكافة أدوات الترهيب ؛ بينما يحاجج أصحاب الانفتاح الكامل بأن الدولة العبرية باتت كيانا واقعيا استطاع فرض نفسه بفضل ما يتوفر عليه من قوة عسكرية ومعرفة تكنولوجية كبيرة يمكن الاستفادة منها.

وفيما تزايد الجهات صاحبة المواقف الرافضة بأنها لا تعترف أصلا بوجود هذا الكيان الدخيل على المنطقة ولا تقبل أي نوع من التعامل معه، متهمة من يقوم بذلك سرا أو جهرا بالخيانة والتفريط، لا تفوت الجهات الساعية للانفتاح الكامل على إسرائيل الفرصة للتهليل ليس فقط لما حققته في علاقاتها معها، وإنما لما تدعيه عن الفوائد الممكن جنيها من هذه الأخيرة، ناهيك عن ذهاب البعض إلى حد التغزل في بعض سياسييها.

فعلى منوال من تجاهل ذات يوم مرجعيته وخاطب الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز بمصطلح "عزيزي" هنالك مسؤولون عرب لا يخفون توددهم إلى رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو ويأملون في عودته إلى السلطة، فيما يفاخر آخرون بعلاقتهم مع رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي يائير لابيد ويتمنون استمراره رئيسا للحكومة المقبلة.  

ولا شك أن في كلا الموقفين الحديين نوع من المغالاة والتطرف مردهما إلى الكثير من العوامل التي يرتبط بعضها بالمناكفة الإعلامية بين المعسكرين، اللذين يمتد الصراع بينهما إلى أبعد من العلاقات مع إسرائيل ليطال ساحات عربية أخرى، مرتديا أبعادا دينية ومذهبية مصيرية في الكثير منها. ومن المؤكد أن هذه المغالاة تحجب عن مناصري الطرفين من الرأي العام العربي الحقائق الموضوعية والواقعية لطبيعة العلاقات مع إسرائيل، وكيفية التعامل معها.

إن دولة إسرائيل بمفهوم القانون الدولي دولة سيدة قائمة الذات، معترف بها من طرف الأمم المتحدة منذ لحظة إعلان تأسيسها سنة 1948، أي قبل استقلال معظم الدول العربية، وهي كيان حي فاعل ومتفاعل سلبا وإيجابا مع المجتمع الدولي ومع محيطه الإقليمي، لديه علاقات جيدة مع البعض، وعلاقات عادية مع البعض الآخر، ومشاكل مع أطراف ثالثة كما هو شأن كافة دول المعمورة.

ورغم أنها تمثل مجتمعا هجينا يتكون من خليط من الأجناس رابطتهم الأساسية هي الديانة اليهودية على اختلاف مدارسها، إلا أن ميزة هذا المجتمع تكمن في أنه مجتمع حيوي، متحرك ومتطور استفاد من هجرة الكثير من يهود العالم إليه سواء بدوافع مادية وأمنية أو بوازع ديني عرفت الحركة الصهيونية كيف توظف فيه الأسطورة التوراتية لأرض فلسطين كميزة جبارة لاستقطاب "يهود الشتات" على حد قول تيودور هرتزل.

ولا يختلف اثنان من المراقبين الموضوعيين على أن إسرائيل دولة متقدمة اقتصاديا وعلميا بقدرات عسكرية رادعة ومتفوقة نوعيا على كل محيطها. وبغض النظر عن كيفية وصولها إلى هذا المستوى من الرقي والتقدم، فإن العالم يشهد لها أنها قلعة تكنولوجية رائدة في عدة مجالات، وخاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا المستخدمة في الصناعات العسكرية وفي قطاعي الزراعة، والصحة وأبحاث الذكاء الاصطناعي.

إسرائيل أيضا دولة استطاعت ضمان بقائها وفرض وجودها في محيط معادي لها خاضت معه حروبا متعددة أثبتت من خلالها مدى القوة التي تمتلكها، كما جسدتها في توسيع رقعتها الجغرافية، وفي دفع الجانب العربي إلى تغيير نظرته إليها وأسلوب التعامل معها. ولكن رغم كل النفوذ الذي استطاعت أن تصل إليه الدولة العبرية ومختلف أذرعها العسكرية والأمنية عالميا، إلا أن تطورات صراعها مع الأطراف العربية أبانت في الكثير من المحطات عن أن قوتها مهما كان حجمها فهي محدودة، ولا يمكن التعويل عليها دوما لحسم المواقف أو لتأمين دعم حلفائها وأصدقائها.

فهذه القوة على سبيل المثال كانت ترى في منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، ولكنها اضطرت إلى تبادل الاعتراف معها، والاعتراف تبعا لذلك بوجود شعب فلسطيني كانت تصر فيما مضى على اعتباره مجرد لاجئين. وهذه القوة رغم أن مخابراتها المرهوبة الجانب دوليا "الموساد" كانت على علم مسبق بما كان يدبر ضد حليفها الموثوق آنذاك شاه إيران، ولكنها لم تستطع منع الثورة ضده، ولا تأمين ملاذ آمن له.

ورغم كل ما سبق، فإن ناكري وجود إسرائيل الذين يدعون العمل على تدميرها باعتبارها كيانا مؤقتا هم مجرد باعة للوهم، لأنهم سبق وأن فاوضوها من قبل وعقدوا صفقات سلاح وتبادل أسرى معها، وبعضهم يفاوضها الآن عبر قنوات رسمية في بلدانهم بحثا عن مصالحهم ؛ فيما المهللون للعلاقات معها والمتوددون لساستها هم بدورهم حالمون، يتجاهلون أن كثيرا من هؤلاء الساسة غير منزهين، وبعضهم انتهى سجينا إما بسبب التحرش (موشي قصاب) أو بسبب الفساد (يهود أولمرت).

 إن إسرائيل التي لن تتهاون أبدا في الرد على مهاجميها، لن تمنح للمتوددين إليها مجانا ما يريدونه منها،  لأنها تعتقد بأنه لولا رعب آلتها العسكرية، وتطورها العلمي والتكنولوجي، وقوة نفوذها الدولي دبلوماسيا وإعلاميا وماليا ما كان البعض يسعى للانفتاح عليها.