الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة  

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة   عبد الصمد الشنتوف:
 
المسافة بين سان بوي ودياغونال لا تتجاوز نصف ساعة. انشرع باب عريض محدثا زعيقا مزعجا. سرعان ما ألقيت بجسدي المكدود خارج القطار وسط حشد هائل من الركاب. صعدت سلما كهربائيا داخل محطة المترو ووجهي يرشح عرقا، ما لبثت أن غادرت النفق مثل فأر مبلل يخرج من جحره. كانت ثيابي تلتصق ببدني، وأنفاسي كادت  تختنق من فرط الزحمة والحرارة.
انعطفت يسارا، ثم تابعت خطواتي في تثاقل إلى أن وجدتني في قلب شارع باذخ فسيح يدعى "باسيج دي غراسيا".
صعقتني الدهشة حين ألفيت نفسي حائرا وسط جمع غفير من السياح يتراكضون لاقتناء تذاكر الدخول إلى معلمة بهية عتيقة. كان الطابور طويلا. أخذت مكاني بينهم، وبدأت أتصفح بنظراتي بناية مغرية تستوقفك وتحرضك على التأمل، كتب عليها "كازا باتلو".
 
تملكني إحساس غريب. استشعرت المصمم المعماري أنطوني غاودي قادما من غياهب الماضي، ليطل علي من شرفة التاريخ. على جدار الذاكرة ترتطم أمواج قرن من الزمن، محدثة أصواتا موحشة. سافر بي في الزمن قليلا. شرعت أصغي إلى نبضات وحكايات أبنية زاهية شيدها غاودي في هذا الشارع الشهير بتصميم هندسي ساحر. معالم يفوح منها عبق التاريخ وتعكس موروثا حضاريا لبرشلونة.
وضع غاودي كفه على لحيته الكثة مرهفا السمع، فقلت له بلذة طفحت على محياي:
- أنت مفخرة برشلونة ورمز للهوية الكاتالانية، كان بودهم أن يطلقوا إسمك على هذا الشارع الفاخر!
تبسم في وجهي بود تلألأ في عينيه وقال:
- أنت لم تر سوى النزر القليل من أعمالي، عليك بزيارة معلمة "كازا ميلا"، وكنيسة العائلة المقدسة "ساغرادا فاميليا" التي استغرقت مني جهدا مضنيا وسنوات طويلة.
بعدئذ، اعتدل في وقفته وكأنه سيلقي درسا طويلا على مسمعي. امتدت يده إلى علبة سجائر، سحب منها واحدة وألصقها بفيه، ثم أوقدها بيمناه، قبل أن يسترسل في حديث شيق جعلني أصغي إليه في دهشة وإعجاب.. حينما فرغ من شروحاته الهندسية الدقيقة شكرته ملقيا عليه تحية وداع، ثم انصرفت إلى حديقة خضراء لاحت في أفق بعيد تحد نهاية الشارع الكبير.
 
سرت مبتعدا أحدق حولي، شعرت بعياء يطال قدمي، التفت خلفي لأجد غاودي قد احتجب عن ناظري، الغريب أن طيفه لم يفارقني لبضعة أيام. أجهدت على نفسي، تابعت سيري قاطعا مسافة طويلة غير عابئ بحراة طقس قائظ. إذ كان قرص الشمس ساطعا في كبد السماء.
 وأنا أتجول على امتداد شارع (غاودي)، أطوف ببصري مشدودا إلى واجهات أبنية قديمة حتى تاهت نفسي ذهولا. لحظة بلوغي نهاية الشارع خطر ببالي أن أقوم بفسحة داخل الحديقة الصغيرة. اجتزت المدخل عبر باب مقوس، فواجهتني ساحة واسعة تعج بحشد كبير من الزوار، يتحركون بين أشجار صفصاف وارفة في مرح. سلكت ممرا محاذيا لبحيرة تطفو عليها أوراق الشجر بكثافة، بدت أشعة الشمس كخيوط مضيئة تنعكس على سطح الماء. ما فتئت حشود السياح تتقاطر على المكان لالتقاط صور تذكارية.
فجأة، حملتني نظراتي إلى ما وراء البحيرة لتصطدم بمبنى ضخم شامخ.
وقفت مذهولا أمام كنيسة عملاقة تعد من أضخم كنائس أوروبا. أرنو إلى صرح معماري شاهق بأبراج تداعب عنان السماء، تكسوه نقوش فنية دقيقة، وأيقونات غنية مفعمة بأحاسيس تحكي تفاصيلها عن قصص حياة المسيح.
قيل أنه قبل اكتمال بناء ساغرادا فاميليا ببضع سنوات، سيفارق المعماري العبقري غاودي الحياة سنة 1926. وبعد رحيله بعشر سنوات، ستشتعل حرب أهلية مجنونة في ربوع اسبانيا بين الجنرال فرانكو والشيوعيين الحمر (الروخوس). لم تسلم المعلمة الساحرة من نيل نصيبها من الدمار. بيد أن الأشغال استمرت عندما وضعت الحرب أوزارها، مع التزام مصممين جدد بأفكار غاودي وروحه المعمارية.
 
في اليوم التالي نهضت من فراشي وأعددت فنجان قهوة لافازا مع حليب ساخن، ثم قصدت محطة سان بوي لتسلق القطار نحو بلاصا اسبانيا. قلت في نفسي أتيت إلى كاتالونيا لاستكمال حلم قديم ظل يراودني لسنوات طوال، هذه فرصتي لاستكشاف معالم برشلونة الأخاذة.
لا يمكن أن تأتي إلى برشلونة دون زيارة لارامبلا. يقال أن أصلها كلمة "الرملة" في اللغة العربية، وذلك لقرب الشارع من رمل الشاطئ.
على ممشى الرامبلا البهيج تمتزج الطبيعة بالمعمار، إذ يشد انتباهك أشجار الأكاسيا المتراصة على جانبي الشارع، ذلك الفضاء البهي الرابط بين بلاصا كاتالونيا وشاطئ كريستوف كولومبوس قرب الميناء.
 
على بعد عدة أمتار يلوح مسرح ليسيو العريق. مبنى شهير صامد كالطود منذ سنين بعيدة. أدى فيه كبار فناني العالم روائعهم ك(ماريا كالاس، بافاروتي وبلاسيو دومينغو)، قيل أنه ظل أكبر دار أوبرا في أوروبا لمدة مائة سنة منذ فتح أبوابه سنة 1847. اقتربت من واجهته في هدوء حتى التصق وجهي ببوابة زجاجية مقوسة، تطلعت ببصري إلى أعلى البهو، سرعان ما وقعت عيني على يافطة كبيرة مكتوب عليها: الموسيقى أقوى من كورونا!
أسفل الشعار تلوح صورة ضخمة لإحدى أهم مغنيات الأوبرا في العالم "مونسرات كاباليه" وهي برشلونية الأصل، اعتلت أكثر من مائتي مرة خشبة ليسيو. بدت وكأنها ترمقني بابتسامة غامضة وعينين غائرتين. وجهها عريض. فمها ضيق. يصعب عليك تخيل هذه المرأة "السوبرانو" تمتلك طبقة صوتية عالية طويلة النفس، ترسل منها أصواتا قوية مليئة بالشجن لتسحر بها قلوب الدنيا.
وفي تحد صارخ، قرر مسرح ليسيو الكبير أن يواجه كورونا بسلاح الفن والموسيقى، لذا لم يتردد في إقامة عروض فنية من جديد رغم تفشي الوباء، وذلك لطرد الحزن من حياة الناس. برقت في ذهني مسرحية "صانع الفرح" لصاحبها الكاتب عباس الحايك التي دارت أحداثها في مدينة اسمها أمانوس حلت بها لعنة الحزن، وبات أهلها بئيسين مغبونين منذ غادر صانع الفرح مدينتهم مطرودا منبوذا. ما لبثوا أن ندموا على فعلتهم، فانهمكوا في البحث عنه ليعيد لهم الفرح.
في أوج انتشار الجائحة، بادر مسرح ليسيو إلى البحث عن مخلص يرسم الابتسامة على شفاه الشعب الكاتلاني، وقتل الحزن الذي سكن قلبه، فتم استدعاء الفنان دوداميل غوستافو لإقامة حفل موسيقي لنشر الأمل في استعادة الحياة لوضعها الطبيعي، والتعايش مع الفيروس اللعين إلى غاية هزيمته والقضاء عليه...يتبع