الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

فؤاد زويريق: فيلم "أسرار البنات" ....معالج لواقع المجتمع بأسلوب إنساني 

فؤاد زويريق: فيلم "أسرار البنات" ....معالج لواقع المجتمع بأسلوب إنساني  فؤاد زويريق
ما يميز مجدي أحمد علي في أفلامه أنه لا يؤذن ولا يخطب في الناس من خلف كاميراته، بل يحكي حكايته وينصرف، لاعظة ولا رسالة كما يفعل البعض بابتذال، فقط سرْدٌ وصُوّرٌ، وبينهما تفاصيل صغيرة ذات معاني دلالية كبيرة عليك كمُتلقٍّ أن تحللّها حسب رؤيتك، كتبتُ سابقا في مقال خصصته لفيلمه ''عصافير النيل'' بأن المخرج مجدي احمد علي حكاّء فنان يعرف كيف يتفنن في تشكيل مفردات الحكي بواسطة الصورة، وهو كذلك وقد ازددت قناعة بعدما شاهدت فيلمه ''أسرار البنات'' فهذه أول مرة أشاهده بخلاف أفلامه ''يا دنيا يا غرامي'' و''البطل'' و''خلطة فوزية'' و''مولانا''، وفي هذا دليل واضح على أنه ليس مخرجا بالصدفة بل بالموهبة والإبداع.
قبل الأوان تذبل الورود على الشجر.
قبل الأوان تشعر البراءة بالخطر.
قبل الأوان.. كبرنا.. كبرت ملامحنا.
بقينا حد غيرنا، وتهنا فى المحنة.
أغنية صدحت بها حنجرة المغنية فيروز كراوية بكل حزن وشجن في آخر مشاهد فيلم ''أسرار البنات'' 2001 للمخرج المتميز مجدي أحمد علي، أغنية لخصت مضمون الفيلم كله، وجعلت منه أنشودة جنائزية ينبعث من بين كلماتها أنينُ البراءة، تلك البراءة التي وجدت نفسها داخل مجتمع ذكوري موحش، لا يتوانى في تقديمها كقربان تقرُّبا من قيَّمٍ ومبادئ مجحفة في حق الأنثى كطفلة وكامرأة أيضا.
  فيلم ''أسرار البنات'' من الأفلام الفنية التي تعتمد على المخرج في تشكيل كل أبعادها، أفلام ذات انتماء لسينما المؤلف، فالمخرج هنا هو الشخصية الرئيسية، هو بطل الفيلم بدون منازع، تجد بصماته متواجدة في كل مشهد من مشاهده بل في كل لقطة من لقطاته، الممثل يبقى أداة في يده يسبر بها أغوار الشخصية، فلا نجوم شباك في أفلامه وحتى إن وجدوا كما في فيلمه ''البطل'' الذي انتج في أواخر التسعينات، بمشاركة كل من أحمد زكي ومصطفى قمر ومحمد هنيدي، إلا أن أداءهم فيه كان جماعيا وبتواطؤ مع المخرج ، ونفس الشيء في هذا الفيلم أيضا، أعني ''أسرار البنات''، فالتشخيص كان جماعيا رغم تميز سوسن بدر ودلال عبدالعزيز فيه، فتميزهما كان مقصودا ومتعمدا، فهما شقيقتان بشخصيتين متضادتين متعاكستين، واحدة سلبية مستكينة /دلال عبدالعزيز، وواحدة قوية ومتمردة/ سوسن بدر، فعندما تلتقيان نشعر بهذا التنافر والتجاذب بينهما، هناك ايضا التشخيص القوي لمايا شيحة التي مثلت أول وآخر مرة في هذا الفيلم، فهي كممثلة فيه أدّت دور بنت مراهقة تقع ضحية المجتمع ، وقد كان عليها تحمل عبء الفيلم كله بنظراتها فقط، تلك النظرات الشاردة المحمّلة بكثير من التساؤلات والهواجس والمعاناة، وقد عرف المخرج كيف يلتقط ظلم المجتمع لها من عينيها، ذاك المجتمع المنغمس في وحل الذكورة بكل تمظهراتها، التقليدية والمحافظة والدينية والثقافية... والذكورة هنا لا تعني الرجل فقط بل المرأة أيضا، وهذا ما نستشفه من أحداث الفيلم، فعندما حملت ياسمين البنت المراهقة من صديقها أو حبيبها لم تجرؤ على البوح بأزمتها لأمها أو خالتها أو حتى لأقرب صديقاتها، فكتمت سرّها وتحمّلت ثقل المعاناة الى أن وضعت مولودها صدفة في بيت خالتها،  فحملها كان خطأغير مقصود جراء عملية جنسية غير كاملة، وهذا يعني في عرف المجتمع خطيئة تستدعي العقاب، والعقاب قد يتكفل به أي فرد من أفراد المجتمع حتى لو كان بدون سلطة قانونية تخول له ذلك، كما فعل الدكتور المتدين الذي ختنها دون الرجوع الى أهلها وهي مخدرة على فراش العملية تحت ذريعة (من رأى منكم منكرا).
''أسرار البنات''... من عنوان الفيلم هذا سنعرف ونستوعب مكان الخلل في المجتمع، فالأولاد والرجال لا أسرار لهم، فقط البنات والنساء، فتحتَ الاستعمار الفكري الذكوري المتسلط تخشى البنت من كل فعل تقوم به، فعليها أن تَختَبئ خلف ستار، وأن تتكتَّم عن أخطائها حتى لو كان الرجل هو المتسبب فيها، فلا استقلالية ولا خلاص لها، وكل ذنبها في هذه الحياة هو تواجدها فيها بتركيبة بيولوجية مختلفة.
 الفيلم غاص في علاقة المرأة بالمجتمع، بأسلوب سينمائي انسيابي سلس، لم يعتمد على أسلوب الصدمة، بل على المعالجة الانسانية الصرفة البعيدة عن الميلودراما الفجة المبالغ فيها، فلا انفجار في المشاعر ولا تهويل ولا تفخيم، ودائما هناك ثنائيات تحقق التوازن الموضوعي، فكما هناك أسرة محافظة، هناك في مقابلها ومن نفس العائلة أسرة متحررة، وكما هناك دكتور مُتزمت متعصب، هناك في مقابله دكتور محترم متسامح، إذن الفيلم استخدم هذه التقابلات المتضادة بذكاء، لم يتهم الرجل مباشرة بالذكورة بل وجه التهمة للمجتمع بمنظومته ككل ، ومن هنا اشتغل المخرج على رؤيته الفكرية وعززها فنياًّ بلغة سينمائية أنيقة احتفى فيها أكثر بالفضاءات الداخلية وأيضا بالمرأة، فبما أن رؤية الفيلم تناولت المرأة كسجينة للمجتمع وأفكاره، فقد حصرنا المخرج داخل الأماكن المغلقة الذي تناسب هذا الطرح، كالغرفة والبيت والمستشفى... أما بالنسبة للمرأة فقد كانت اللقطات القريبة والقريبة جدا هي الطاغية وخصوصا بالنسبة لياسمين حتى نتقرب من أحاسيسها ونعيش أزمتها من الداخل.    
  
أما ذروة البناء الدرامي المغلّف بالإبداع الجمالي للصورة فقد كان في آخر المَشاهد، فبعدما توفيت الرضيعة وتطلقت ياسمين، كانت هناك تفاصيل دقيقة توحي بأن الحياة لن تعود الى ما كانت عليه من قبل، فالأب رغم فرحه الظاهر بانتهاء الأزمة إلا أنه ازداد صرامة وخوفا على ابنته، ويظهر هذا في إضافته لقفل جديد ثبته على باب البيت... الكاميرا تنقلنا الى غرفة ياسمين وهي ممددة على السرير تقربنا من لعبتها أو دبدوبها المفضل الذي يدل على طفولتها وبراءتها، تخفيه تحت غطائها وهذه اشارة منها بانتهاء هذه المرحلة وبداية مرحلة أخرى مختلفة، هذا رغم أن سنها مازال في نفس المرحلة العمرية... في آخر مشهد من الفيلم ياسمين تتمشى بحزن داخل غرفتها، تتلمس حوض أسماكها، تقف أمام صورتها المعلقة على الجدار والتي تنطق براءة وسعادة، تسمع زغاريد وأصواتا، يتراءى لها كل الأشخاص الذين تعاملت معهم في أزمتها، تتجول بينهم وتتطلع إلى ملامحهم بدهشة، ثم تستلقي على سريرها، بعد مدة يختفون، لكن أصواتهم بقيت تُسمع بين جدران الغرفة، المخرج استخدم في هذا المشهد الأخير المطول، اللقطات القريبة بالنسبة لملامح ياسمين لنقل تعبيراتها النفسية، وحركات المتابعة وهي تسير بين الأشخاص داخل غرفتها الضيقة حتى نتابع بشكل تقريبي ومن خلال الكاميرا ما تراه هي، واللقطة الأخيرة المعبرة هي لقطة الزاوية السفلية التي تؤخذ من أعلى الى أسفل، حيث صورت لنا ياسمين من فوق وهي على سريرها، ولخصت لنا مآلها ومصير مستقبلها داخل مجتمعها، فهذه اللقطة هي تعبير مصوّر عن التقزيم وقلة الحيلة والضعف التي تعيشه وستعيشه هذه البنت المراهقة داخل أسرتها ومجتمعها.