الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

رمزية ودلالة (لَعْصَابَةْ) في الثقافة والتراث الشعبي المغربي (1/2)

رمزية ودلالة (لَعْصَابَةْ) في الثقافة والتراث الشعبي المغربي (1/2) نموذج لرمزية ودلالة "لَعْمَامَةْ" أو "الرُّزَّةْ" أو "لَعْصَابَةْ" فوق رؤوس الرّجال

وثقت الثقافة الشعبية الشفهية المغربية، المعنى الديني و الرمزي و البطولي لرمزية ودلالة "لَعْمَامَةْ" أو "الرُّزَّةْ" أو "لَعْصَابَةْ" فوق رؤوس الرّجال عامة، والفرسان خاصة، إلى درجة كانت جيوش الإستعمار الغاشم، الفرنسي أو الإسباني تهاب مواجهة المجاهدين والمقاومين في ساحة القتال، الذين يعتمرون قمّاش الثوب الأبيض من نوع (حَيَاتِي) فوق رؤوسهم في تحدّ مبهر للموت، على اعتبار أن المقاوم كان يضع كفنه فوق رأسه.

 

"لَعْصَابَةْ"... رمز للشجاعة والباسلة

والدليل أن الرجل/الفارس المغربي الذي كان ومازال يضع "لَعْمَامَةْ" البيضاء من نوع ثوب (حَيَاتِي) على رأسه، سواء في الجبل أو الصحراء أو المدشر والقرية، كان لا يفارق سلاحه، حيث كان يتأبط سواء بندقية من نوع بُوحَبَّةْ أو سَيْفا أو خَنْجَرا.

في هذا السياق يؤكد مجموعة من الدارسين والباحثين أن وضع "لَعْصَابَةْ" البيضاء على الرأس كان يدل ويرمز إلى قيمة وأهمية الوحدة الوطنية، وضرورة الدفاع عن الأرض والعرض والجهاد ضد المستعمر الغاشم، حيث كان لـ "لَعْصَابَةْ" قياس واحد لا يقل عن مترين من القماش الأبيض يطلقون عليه ثوب "حَيَاتِي" تعبيرا عن رقته و نعومته ولمعانه. (الرَّاجَلْ هُوَ الِّلي يْمُوتْ عْلَى بْلَادُو. وَلَّا عْلَى أَوْلَادُو).

واعتمادا على الرواية الشفوية، فإذا عجزت القبيلة في صد هجوم الأعداء والخصوم أو استشهد بعض رجالها في ساحة المعركة، فإن الرجال من رفاقه الفرسان لا يعدمون كفنا جاهزا، حيث يستعملون ثوب "لَعْصَابَةْ" البيضاء كفنا للشهيد، فضلا عن تضميد جراح كل من أفلت من الموت والاستشهاد في سبيل الوطن.

 

"لَعْصَابَةْ" رمز للسُّمو والوجاهة

قال عمر بن الخطاب "العمائم تيجان العرب"، وكان العرب يتباهون بطول "اَلْعَمَامَةْ" حتى أن بعض الأغاني الشعبية المغربية التي اشتغلت على متنها مجموعة مسناوة التراثية (امْحَمَّدْ يَا وْلِيدِي) تغنت بمكانة و وجاهة أحد الشخصيات بطول عمامته (رُزْتُو حَيَاتِي مَنْ عَشْرِينْ قَالَةْ). دون إغفال مسألة التباهي بـ "لَعْصَابَةْ" في المناسبات الإحتفالية و الفرجوية (مْشَاوْ مْوَالِينْ لَعْصَايْبْ).

 

حرق "لَعْصَابَةْ" مقياس لتألق "رْبَاعَةْ" الشيخات في أداء فن العيطة

حسب الرواية الشفهية المتدالوة في عدة مناطق بمجال عبدة ودكالة وأحمر، فقد كان أعيان القبيلة المولوعين بفن العيطة، يحضرون للجلسات الفنية التي يحييها "رْبَايْعْ" الشّيخات والشّيوخ ويجلبون معهم "شْوَارِي/ حْمَلْ" من "لَعْصَايْبْ" البيضاء (غير مستعملة) على متن اَلْجِمَالْ. وحين انطلاق "لَفْرَاجَةْ" يتناول الرجل "عْصَابَةْ" من "الشْوَارِي" ويضعها على رأسه، لكن حين ينتشي بجودة أداء العيطة ينزعها من رأسه بطريقة تشد انتباه الحضارين، ويرميها داخل نار "اَلْمَجْمَرْ" لإحراقها، كمقياس ورسالة تعبيرية عن براعة الأصوات الرخيمة، وإتقان العزف والإيقاع والأداء المتميز. بل أن العملية في نظر البعض تعبر على بلوغ الرجل منتهى النشوة، ويمكن اعتبار ذات العملية أيضا شهادة تميز العازف والطباعة وحفظهما لمتون العيطة.

الجميل في هذا الطّقس الفُرْجَوِي، أن قمة النّشوة والحكم على جودة أداء فن العيطة خلال الجلسة الفنية على جميع مستوياتها (العزف والإيقاع والحفظ والأصوات....)، يكمن في استمرارية إحراق "شْوَارِي" لَعْصَابَاتْ بأكمله بعد وضعها كل مرة على رأس المتلقي/المنتشي بفن العيطة، حتى يقال في اليوم الموالي: "أن فلان قد أحرق في جلسة فنية شْوَارِي/حَمَلْ جَمَلْ مِنْ "لَعْصَايْبْ". بمعنى أن الليلة أو الجلسة الفنية برعت فيها "الرْبَاعَةْ" عل مستوى غناء فن العيطة.

 

"لَعْصَابَةْ" وعلاقة نشوة "الْبَّارْدِيَّةْ" بفن العيطة

السؤال الذي يفرض وجوده هنا والآن هو : "أليست هناك علاقة بين رقصة (اَلْـﯕَنْبُورَةْ) التي يكسر خلالها (أَبَّا التْهَامِي) جرار الطين الممتلئة بالماء، أثناء إطلاق البارود في محرك التبوريدة من طرف سَرْبَاتْ اَلْخَيْلْ، وبين عميلة إحراق (لَعْصَابَةْ) خلال ليالي السّمر العيطية وجلساتها الفنية قديما؟"

إن إتقان "اَلْوَجْبَةْ/اَلْعَيْطِيَّةْ" الغنائية والحكم عليها بالجودة (عزفا ومتنا، وأداء وأصواتا..) من خلال بلوغ مستوى عال من النشوة، يعبر عليها المتلقي بإحراقه لـ "لَعْصَابَةْ"، ونفس الشيء بالنسبة لجودة طلقات البارود (اَلْمَاصَّةْ) التي يحكم عليها (أَبَّا التْهَامِي) بطقسه الفرجوي وهو يرقص انتشاء ويحلق بحركاته في سماء (اَلْمَحْرَكْ) ثم يجهزه على (الجرة) الـْﯕَنْبُورَةْ الطينية، ويكسرها أمام الملأ في لحظة فرح.

ـ في الحلقة القادمة دلالة ورمزية التطويح بـ "لَعْصَابَةْ" في عنان السماء من طرف الفرسان. "سربة العلام عبد الله بن أبيه بإقليم سيدي قاسم نموذجا".