الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد يسين: المعصرة و" خبز الشعير"...

محمد يسين: المعصرة و" خبز الشعير"... محمد يسين
ذات صباح جلست في المقهى المعتاد، حين أتاك النادل بالطلبية، استغرقت وقتا وأنت  تنظر لرغيف الخبز، كقطعة أثرية من الزمن الماضي،استهواك منظرها الفريد، الوانها المتميزة،حباتها الداخلية المتفردة اللون،رغيف منقسم على نفسه نصفين،كما شاء نادل مقهاك المفضل بالزراردة، أن يقسمه بيده لا بالموسى، أدركت المغزى في ملامسته باليد،لا بقطعة حديدية...

حطت ذاكرتك بموقع  الرحى التقليدي (مطحنة الزيتون)، بقريتك " اولاد عميار "، ذات سنين وانت في عقدك الأول...لا زلت تتذكر جزئيات وتفاصيل المكان، نقطة نقطة، وكان ذاكرتك، ذاكرة فيل.

بناية من الطين، أربعة حيطان بسقف من الطين والصلصال، مرفوعا على اعمدة متراصة هنا وهناك، في الزوايا الأساسية للإرتكاز، في تناسق جميل.تتوسطها صخرة كبيرة على شكل دائري، نحتت ككسعة كسكس كبيرة جدا، يتوسطها عمود غليظ من شجر الأرز، أثبت بإتقان في وسطها، مفتخرا بلونه اللامع، وقطرات الزيت قد ساهمت في اللون وفي اللزوجة. كنت تستمتع باخد "حفناة" من الزيتون المنتشر على جنبات الرحى، كلما مر أمامك " الحمار" وهو يجر الحبال الموثوقة الربط، بذاك العمود المثبت باتقان  بوسط الحجرة  الدائرية الكبيرة، التي تدوس على كمية الزيتون في دورانها، لتفرمه، وتكسر نواته...

بين الفينة والأخرى ينبهك جدك" الشيخ لحسن" كما يلقبوه بقريته،" رد البال أ داك الشيطان،" " عنداك تطيح فالحفرة" .
عمليات محسوبة هناك بالمطحنة... طحن وخرم  للزيتون، تجميعه في أكياس من نبتة الدوم، منفردة التصميم، وضع الأكياس الواحد تلو الآخر بادخالها في ركيزة مثبثة في الأرض بعناية، حين يصل ارتفاعها لما يسمى ب" الزقور" وهو جدع شجرة زيتون غليض، ينتهي بغصن على مقدار من الغلضة  والصلابة، يتوسطه ثقب بهندسة لولبية خاصة، أثبت فيه عمود لولبي على مقاس الثقب،بشكل يسمح  لجدع الشجرة بالنزول على كمية " الشوامي" ليعصر زيتها على مهل،حركات دوران مضبوطة الوتيرة لا يدركها سوى المتمرسون، لأن سرعة هبوط ثقل  الجدع  ليضغط على كمية الزيتون لها وتيرة معينة...

كنت دوما تتساءل لماذا يصر جدك على السكوت المطبق، في الرحى،حين الضغط على حمولة الزيتون المفروم، لا أحد يستطيع تبادل الكلمات، كانت بين الفينة والأخرى تنفلت منك الضحكات، يكتفي الجد الصارم، بنظرة من عينيه الغارقتين في محجريهما،لها ما لها، مرتبطة أساسا بما يسميه الجد (احترام أصحاب المكان، أو بركة المكان)، نظرات كانت تجعلك تضع يدك على فمك وعيناك تستعطفان الجد، حتى يتركك بالرحى لاخر العملية،هي لحظة جميلة حين ترسل الجدة طابقا من الدُّومِ تتربع وسطه" خبزة الشعير" الساخن، وبراد  الشاي الكروي ذي اللون الأحمر. 

ياخد جدك الإناء الأبيض " طبسيل" هو إناء متعدد الوضائف، لأكلة البيض في فضائه لها نكهة خاصة، يغرف الزيت من " النقير" ،زيت لازال برغوته كما الشاي ذاك الذي حرق لسانك، ذات فضول واستعجال منك.