الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

محمد لكزولي يكشف عن أسباب إقبار القيمة الثقافية والتراثية لفن الملحون

محمد لكزولي يكشف عن أسباب إقبار القيمة الثقافية والتراثية لفن الملحون محمد لكزولي

في المغرب لاحظ المراقبون أن القائمين على الشأن الموسيقي والغنائي لا يهتمون في زمننا هذا إلا بلون من الموسيقى ونمط غنائي واحد يرتبط بـ (الموسيقى الشبابية) التي تسيطر على المشهد الفني أما باقي الأنماط فهي مطموسة ومسجونة في دائرة المنسي. من هذا المنطلق ينتصب سؤال حارق: هل رحم المغرب عقيم إلى هذه الدرجة، ولم نعد قادرين على ضمان استمرارية إنتاج ألوان موسيقية وغنائية رافقت الناس في حياتهم منذ عقود؟

نفس المصير يعرفه نمط موسيقى وأغاني المجموعات الغنائية المصنفة في خانة الظاهرة الغيوانية، إلى جانب فن العيطة حيث نجد أن نفس الأغاني التي أداها الرواد يتم تكرارها ويتم إعادة تقديمها بطريقة "عشوائية" تشوّه كلماتها بعيدا عن ضوابط الميزان والإيقاع واحترام أذن المتلقي باستثناء بعض الإشراقات. ونفس الشيء ينطلي على فن الملحون وطرب الآلة الأندلسية بحيث أن إنتاجات الرواد هي التي تتكرر ويعاد بثها .

طبعا نحن لسنا ضد الموسيقى الشبابية ولكن لابد من طرح السؤال: هل هناك إرادة رسمية من طرف مؤسسات الدولة تتجه نحو إعلاء شأن الأغنية الشبابية (سعد لمجرد ومن على شاكلته) على حساب الموروث الموسيقي والغنائي المغربي (الأغنية العصرية وأغاني فن العيطة والملحون وطرب الآلة، وأنماط الأغاني الشعبية) لتي شكلت مرجعا تراثيا وكنوزا ثمينة يفتخر بها لكل المغاربة؟

إن دليلنا في هذا الاتهام هو أن بعض الإذاعات المغربية لا تذيع ولا تبث إلا لون الموسيقى الشبابية، ومن حين لآخر تتكرم على الشعب المغربي بأغاني عصرية أصيلة وأغاني من الموروث الشعبي في أوقات متأخرة من هزيع الليل، وكأنها تقدم منتوجا لا يصلح إلا لفئة عمرية ومحضور عن فئات أخرى.

السؤال الأكثر غرابة هو لماذا أن أغلب المهرجانات تسير في نفس المنحى الذي ينتصر لنمط الموسيقى الشبابية على حساب الموروث الثقافي الشعبي، فين حين أن المغرب يزخر بأنماط الموسيقى التقليدية ومن واجب الدولة المغربية أن تنصف وتضمن حق جميع المواطنين في التمتع والاستمتاع بكل الألوان التي تعتبر موروث للمغاربة. ولا حق لأي مسؤول أن يفضل هذا اللون عن الآخر؟. في هذا السياق وجهنا أسئلتنا للمبدع والفارس "البَّارْدِي" محمد لكزولي بصفته كاتبا متخصصا في صنف "اَلْخَيْلِيَاتْ" وممارسا لفن الملحون، حيث عبر عن موقفه من خلال هذه الورقة التي تتقاسمها جريدة " أنفاس بريس" مع القراء.

 

إن الحديث عن قضية تهميش العديد من الأنماط التراثية والشعبية المغربية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإقصائها أو تقزيمها في عدد من المنابر الإعلامية سواء منها التلفزيونية أو الإذاعية يجرنا لوضع الأصبع أولا على الأسباب الحقيقية التي ساهمت وبشكل كبير في هذا التهميش والإقصاء والتقزيم.

ولنأخذ تراث الملحون كنموذج، بصفتي شاعراً نظاما وباحثا ومجددا فيه، سأتناول بشكل مختصر جانبا من الإكراهات والمعاناة والتهميش الكبير والإقبار الممنهج للقيمة الثقافية والتراثية الحقيقية له رغم عناوين الشعارات الكبيرة التي ترفع هنا وهناك.

يعتبر فن الملحون من بين أعرق وأرقى أنواع التراث المغربي، بل أصبح بإمكاننا أن نقول أنه من أرقى انواع التراث العالمي بعد أن تم إدراجه مؤخرا ضمن لائحة التراث العالمي. وقد تم تسميته بإجماع أهله وممارسيه "ديوان المغاربة" لما حملته نصوص شعراء وشيوخ الملحون من توثيق وتأريخ لمراحل مهمة من تاريخ المغرب وتقاليد شعبه وثقافتهم وجهادهم وانتصاراتهم وانكساراتهم وأفراحهم وأتراحهم وعشقهم وهيامهم... إلخ.

هذا الدور التوثيقي المتميز لشعر الملحون إضافة إلى دوره الفني الطربي لا يزال مستمرا منذ قرون وإلى عصرنا هذا رغم وجود معيقات حقيقية تجعله يدور في حلقة ضيقة لا تتجاوز بعض الأنشطة اليتيمة لبعض الجمعيات والمهتمين.

 

من أبرز هذه المعيقات أذكر :

في مجال النظم هناك شعراء معاصرين يبدعون في نظم قصائد الملحون ويعملون على مواكبة مختلف الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، بالإضافة إلى إبداعهم في جانب التجديد في الأغراض، بإضافة مواضيع جديدة كمثال غرض "اَلْخَيْلِيَاتْ" الخاص بكل ما يتعلق بالخيل وسلالاتها وألوانها واستعمالاتها...وهو غرض من اجتهاد عبد ربه إضافة للتجديد على مستوى شكل القصيدة بابتكار قياسات جديدة (عروضا ولحنا) بعد جمود دام لأكثر من قرن ونصف.

إلا أننا نصطدم رغم الإجتهاد بغياب التشجيع والتنويه سواء إعلاميا أو من طرف المؤسسات الناشطة في المجال، غياب يحبط العديد من الشباب الراغب في العطاء والتجديد ويثبط من عزيمتهم.

أما فيما يخص الإنشاد فالمغرب ولله الحمد زاخر بالفنانين الشباب الذين يتميزون بأصوات رائعة وطاقات خارقة في أداء قصائد الملحون، لكن انعدام التشجيع وغياب الفرص الحقيقية لإظهار مواهبهم تجعلهم يهاجرون إلى مجال الأغنية الشبابية لأنها تحظى بتشجيع إعلامي كبير خلافا للأغاني التراثية الشعبية.

وبخصوص البحث في الملحون فرغم وجود اجتهادات كبيرة سواء لتصحيح عدد من المفاهيم الرائجة بخصوص تاريخ الملحون أو لشرح مضامين القصائد، أو الدراسات العروضية المبنية على أسس وقواعد صحيحة، فكل هذا يقابل بالتجاهل الإعلامي والإنكار والمحاربة من طرف بعض المحسوبين على هذا الفن العريق.

إكراهات كثيرة تعترض الإبداعات الشبابية المعاصرة في فن الملحون رغم أنها إبداعات تستحق كل التنويه والتشجيع كما تستحق الإهتمام من طرف المشرفين على بث وبرمجة الفواصل والفسحات والوصلات الفنية الموسيقية على أمواج وقنوات الإذاعة والتلفزة، خصوصا بعد أن تم الإعتراف به من طرف منظمة اليونيسكو؛ اعتراف يقابله تهميش وتقزيم. فقصائد فن الملحون لا نسمعها ولا نشاهدها إلا ناذرا بينما تفرض على مسامعنا مئات الأغاني التي لا تستحق البث ولا ترقى لمستوى الفن والموسيقى ولا تناسب ذوق غالبية المغاربة.

 

ومن وجهة نظري ونظر مجموعة من المهتمين والممارسين فيمكن تلخيص المشاكل التي تعيق هذا الفن وهذا التراث في أربع نقط أساسية:

1-  غياب جهة مسؤولة مباشرة على تراث الملحون؛ وغياب مؤسسة وطنية حقيقية تدافع عن هذا التراث في جميع المحطات والمنابر، وترفع به للمكانة التي تليق به.

2 ـ غياب مختصين حقيقيين في فن الملحون داخل أروقة أكاديمية المملكة، وتنصيب هذه الأخيرة لمجموعة من الأساتذة تحت إسم (لجنة خبراء الملحون) مع العلم أنهم لا يفقهون في الملحون ما يؤهلهم لهذه المهمة؛ وخير دليل على ذلك هو مهزلة تجميع وإصدار دواوين الشعراء القدامى مليئة بالأخطاء والمغالطات.

3 ـ عدم إدراج الأعمال المعاصرة من طرف منظمي المهرجانات وتعمد تكرار القصائد المتداولة فقط في جميع الدورات كقصيدة "فَاطْمَةْ" و "غِيثَةْ" و "غَاسَقْ لَنْجَالْ" وكأن الملحون منحصر في هذه القلة القليلة من القصائد.

4 ـ اقتصار الإعلام عامة على جزئ صغير جدا من الأرشيف والتعامي عن الإبداعات الجديدة مع العلم أن هناك أعمالا أكثر إبداعا وجمالا نظما وعزفا وإنشادا مما يتم تقديمه.