الجمعة 19 إبريل 2024
ضيف

محمد نور الدين أفاية: السلطة اغتالت المد التحديثي وشجعت "الإسلام السياسي"

محمد نور الدين أفاية: السلطة اغتالت المد التحديثي وشجعت "الإسلام السياسي"

يشير محمد نور الدين أفاية، الباحث وأستاذ الجماليات بجامعة محمد الخامس، إلى أن النزوعات الحداثية الجديدة تعرضت لعملية إجهاض سياسية منظمة من طرف النظام السياسي بعد أحداث 23 مارس 1965. مضيفا إلى أن أصحاب القرار، منذ ذلك الحين، لم يترددوا في خوض معركة قاسية ضد التفكير والإبداع بدعوى أن الثقافة الجديدة تنتج معارضين. كما يضع أفاية، في هذا الحوار، الأصبع على مكامن الخلل في علاقة المواطن المغربي مع الآخر ومع سلوكاته في حياته اليومية بالمدينة...

 

حاوره: بوجمعة أشفري

 

+ في كل يوم يحرص المغاربة على ممارسة حصة خاصة بجلد القانون. فالمواطن عامة لا يحترم إشارات المرور، ولا يحترم الصف، ولا يحترم النساء الحوامل أو المعوقين، ولا يراعي حسن الجوار داخل حيه، إلخ... لماذا في نظرك نمارس هذا «الجلد» على القانون ومن ثمة على أنفسنا؟

- لا أتصور بأن الأمر يتعلّق بعملية «جلد» القانون من طرف المغاربة، أو من طرف بعض المغاربة، لكي لا يسقط المرء في تعميمات ليست دائما مبررة. لسبب أساسي هو أن عمليات التنشئة العامة في الحالة المغربية، من الأسرة، والشارع، والمدرسة بمراحلها المختلفة، لم تستبطن، بشكل بنيوي ومُوعى به، مسألة القانون في الحياة العامة وفي المجال العام. نحن نجلد شيئا، أو أحدا حين نريد معاقبته. والحال أن القانون، سواء كإطار معياري أو مُجسّدا في هيئات ومؤسسات، هو الذي يضع قواعد ما هو مسموح ومباح وما هو ممنوع ومحظور، وهو الذي يحدد شروط العقاب. ولعل التعامل مع القانون يعكس، في ظني، تعقد العلاقة التي تميز موقف المغاربة مع أحد أهم أسس الحداثة والنظر إلى الآخر. لقد استبطننا حداثة ناقصة، إن لم تكن حداثة مشوهّة. لم نستقبل منها إلا ما هو سطحي ونفعي.. وقاومت المؤسسات، سواء النظام السياسي، ومنظومة التعليم، والأسرة، والإعلام، والشارع العام، شروط استنبات وتوطين الأسس الفكرية والمعيارية والعملية للحداثة، وعلى رأسها القانون. يقال إنه «إذا كان النحو هو قانون اللغة، فإن القانون هو نحو المجتمع». ونحن، كما أشرت، ضيعنا فرص إدماج قيم العصر في المؤسسات، حتى وإن أدخلنا مظاهر تحديث.. وجدنا أنفسنا أمام وضع شبه سوريالي سواء في علاقتنا بالقانون أو باللغة. فالفوضى اللغوية عرَض من أعراض الفوضى التي تنسحب على القانون والتعامل مع الآخر ومسألة العيش المشترك.

+ هل لهذا الأمر علاقة بالتربية والوعي؟

- لا شك أن للموضوع علاقة بالتربية والوعي بالارتباكات الكبرى التي أنتجتها عمليات التحول السريعة التي عاشها ويعيشها المجتمع المغربي من البادية إلى «المدينة»، ومن التقليد والعيش على الكفاف إلى الانخراط الجنوني في مجتمع الاستهلاك. كما أن الأمر يتعلق، بلا شك، بالاهتزازات التي حصلت في القيم بين القديم والجديد، بين ثقل المحافظة وشروط اكتساب معارف العصر، بين الفرد والجماعة، وأيضا التبدلات التي حصلت على النظرة للسلطة، وللمرأة، وللشيخ، وللمعلم، وللمؤسسة. وهي نظرة تتميز بمنسوب كبير من الاستخفاف وعدم اعتبار الآخر. ويكثف الموقف من القانون، في ظنّي، درجة التمدّن والتسامح ومدى استبطان أخلاق الواجب. وتعكس هذه الدرجة مفارقات وتناقضات، وأشكال الفصام والتعمية التي يتداولها الناس ويتصرفون على أساسها. وإذا كان هذا الاتجاه غالب ومستفز في المجال العام، فإننا، بالتأكيد، نجد من يملك أخلاقيات تتوافق مع شروط التمدن ومراعاة القانون وتقدير الآخرين في المجال العام، وإن كان عددهم قليل.

+ نجد القاموس الذي يستعمله «المواطن» المغربي في حياته اليومية طافحا بعبارات تُبعد المسؤولية عنه. فالمواطن الغربي، على سبيل المثال، يتحمل مسؤولية اتخاذه قرارا ما، بينما لا نعاين مثل هذا السلوك في المغرب، إذ أننا نجد المغربي، في كل مرة، يرمي باللائمة على الآخر..

- نجد بعض عناصر الجواب على هذا السؤال في ما تقدم. إن هذه القضية في منتهى التعقد، ذلك أن مجتمعا انتزعت من إنسانه كرامته طيلة نصف قرن، ومُنع من التفكير، ومورست عليه كل أشكال الوصاية بسبب النزعة الأبوية التي طغت على وعيه ووجدانه، وزجّ به في إيقاع للاستهلاك الجنوني بدون مقدمات ولا تربية بنيوية على الإنتاج والاستحقاق. لم نترب على المسؤولية والاعتراف منذ الطفولة، في الأسرة والمدرسة والشارع. إضافة إلى أن الاتجاه العام السائر نحو التمدين، بدون تمدّن، والتصرف «العشوائي» مع المكان والزمان والقانون، وطرق التحايل المختلفة على مقتضياته أنتج مواقف من قبيل تلك التي ذكرت. فالأمر يحتاج إلى تحاليل متعددة الاختصاصات لفهم هذه المفارقات، ذلك أن قوة التحولات الجارية في المغرب لا يواكبها مجهود مواز في التحليل والتفكير والفهم. كثيرة هي الظواهر التي نستبطنها، سلبيا، بدون الوعي بأسسها وأبعادها. ومنها التضخيم من شعارات الحقوق على حساب أخلاق الواجب. ويحدد هذا الفارق سيطرة النزعة الاستهلاكية للكلام بدون إدراك معانيه، وابتلاع وصفات جاهزة بدون مساءلة خلفياتها واتجاهها وغاياتها.

+ لماذا، في نظرك، ينعدم عندنا في المغرب الإحساس بالانتماء للمدينة أو للبلد Le sentiment d'apparentence؟

- لا يمكن القول، بإطلاق، إن الإحساس بالانتماء منعدم، سواء للقبيلة، للعائلة، للحي، وللمدينة، أو للبلد. إذ يبدو أن مشاعر الانتماء تعرّضت للتبدل بسبب الاهتزازات الكبرى التي حصلت في بنية الأسرة، والعلاقات الاجتماعية والعلاقة بالأمكنة، والأشكال المختلفة للعنف التي بدأت تطغى في التواصل والمجال العام. بل إن الفردانية المشوهة التي تتخذ أبعادا عدوانية أحيانا، والشعور المتنامي بالوحدانية وبالضياع دفع بالبعض إلى خلق بدائل أخرى للإحساس بالانتماء.. بما فيها تلك التي تسمح بها شبكات التواصل الاجتماعي، بل وللعودة إلى العائلة، أو ما تبقى من العائلة للبحث عن الدفء الإنساني المناسب. لا شك أن مشاعر استبعاد الآخر والتبرم من المغربي في بعض الحالات والوضعيات قد يعكس بعض مظاهر غياب الانتماء المشترك إلى وطن، أو مدينة.. لكن الظاهر أن المغربي، في مقابل ذلك، يشعر بفرح خاص حين ينتصر المغربي ويحتل المواقع الأمامية. لكن هذا الشعور ينتفي كلما تعلق الأمر بهزيمة، حينها تنتصب خطابات الانتقاص وجلد الذات والتنصل من الانتماء.

+ ما هي، في نظرك، العوائق التي تحول دون تأثير الثقافة (وبالأخص التعليم) على شخصية «المواطن» المغربي في سلوكاته اليومية، وأعني هنا «المواطن» الذي تلقى نصيبا من الثقافة والتعليم؟

- علينا الانتباه إلى أن استعمالات الثقافة في التداول العام كثيرا ما تكون فضفاضة وغير متفق على طبيعتها، ووظائفها في المجتمع. تتوزع الثقافة إلى الثقافة الشعبية التي تعتمد على التداول الشفوي؛ والثقافة العالِمة التي تنتج بالكتابة ووسائل تعبير أخرى؛ ثم الثقافة الوسائطية التي تستعمل وسائل تقنية جديدة تجمع ما بين الشفوي والكتابة والسمعي البصري. المشكلة في المغرب ترتبط بالموقع الحقيقي للثقافة الحديثة ومدى توطينها في المؤسسات والأذهان والسلوكات. ومعلوم أن الثقافة الحديثة في المغرب لها تاريخ محدود لا يتجاوز نصف قرن نظرا للطبيعة التقليدية والمحافظة للرأسمال الرمزي المغربي المتجذر في الوجدان وفي المتخيل الجمعي. بل وحين بدأت المحاولات الإبداعية الأولى تعبر عن نوع من «الذاتية المغربية الحديثة» في بداية الستينيات، بواسطة الرواية والشعر الحديث، والأغنية، والتشكيل، والأعمال السينمائية الأولى، والقصة والنقد الأدبي، والإنتاج النظري... تعرضت هذه النزوعات الجديدة لعملية إجهاض سياسية منظمة من طرف النظام السياسي بعد أحداث 23 مارس 1965. لم يتردد أصحاب القرار، منذ ذلك الحين، في خوض معركة قاسية ضد التفكير والإبداع بدعوى أن الثقافة الحديثة تنتج معارضين. واختارت السلطة اغتيال هذا المد التحديثي الجنيني ومحاصرته بكل الوسائل، ومنها: المنع، ومحاصرة المبادرات الكفيلة ببلورة فضاءات لحرية الإبداع والتعبير واستنبات قيم المجتمع الديمقراطي. وبدل ذلك تمّ تشجيع الإسلام السياسي، وتغليب التربية الإسلامية على حساب التربية المدنية وبناء الذات القادرة على المشاركة، والتفكير والمبادرة. فالعقلية الأبوية التي حكمت التدبير السياسي لشؤون المغاربة أنتجت أشكالا مختلفة من الوصاية التي تمنع الفرد من الإحساس بذاتيته وبقدرته على الفعل والإبداع. وقد راهن الفاعل السياسي على التعليم لترجمة توجهات النظام التقليدية بواسطة ضخ البرامج والمناهج بجراثيم التقليد والاجترار والتواكل. إن المغرب لا يزال يدفع أثمانا باهظة بسبب هذه الاختيارات السياسية والإيديولوجية المضادة للفكر الحديث إلى اليوم، مهما سمعنا من خطابات، رسمية وغيرها، عن «المجتمع الديمقراطي الحداثي» ما دام الفاعل السياسي لم يقتنع بعد بتغيير النظرة إلى المغربي وإعادة بناء منظومة التربية والتعليم لإنتاج مغربي يكثف مقومات هويته بقدر ما يتملك شروط الزمن المعاصر، وإطلاق مشروع ثقافي جديد كفيل بإدماج الشباب في المسار العام لحركية المجتمع والتاريخ. بدون ذلك سيجد المغرب نفسه أمام كائنات عاجزة على الفعل وتحمل المسؤولية. ومظاهر هذا العجز وانحسار الشروط الدنيا لإعادة إنتاج النخب بدأنا نعيشها اليوم. وهذه علامات غير سارّة على الإطلاق.

+ في الماضي القريب كان المغربي يفتخر بعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله كنون، و....، بينما اليوم نجده يتماهى مع شيوخ الدجل وفقهاء الظلام. ما السر الكامن وراء هذه الردة أو السقطة؟

- من هو هذا المغربي الذي كان يفتخر بهذه الأسماء؟ أسماء المفكرين والمثقفين التي ذكرتها لا تعرفها إلا أقلية من المغاربة. وأنت تعلم بأن نسبة المقروئية ومحدودية شبكة المكتبات والخزانات وتراجع الدور الثقافي للتعليم، والحصار السياسي والإيديولوجي، لا يسمح بالتعريف الواسع بالمجهودات النظرية لهؤلاء المفكرين. تشكل النخبة الحديثة في المغرب أقلية، ويتقلص عددها مع انتشار الفكر السحري ومظاهر التدين السطحي، والغش، والبحث عن تجنّب بذل المجهود. اقترنت هذه المظاهر الجديدة بحمى مرضية للاستهلاك وتورمات الأنا، وانعدام قيم الاعتراف. فعناصر «الردة» كانت دائما موجودة، وليست جديدة. لكنها أصبحت حاضرة، بقوة، بسبب تضافر عوامل عديدة، منها تأخر المغرب في تعميم التعليم في وقت مناسب، وتعرضه لاجتياح سمعي بصري بدون أن يقترح مشاريع تسمح له بالتموقع الوطني والجهوي، وتقديم منتوج وطني قادر على خلق التفاعل الضروري مع مختلف أشكال ومكونات الجمهور، و«هجرة» المغاربة نحو قنوات دينية مشرقية. ثم الانخراط المتسارع في استعمال الوسائل الرقمية بدون التأسيس للبنيات التحتية الكلاسيكية الضرورية من مكتبات، ومنشئات رياضية وفضاءات للتعبير والإبداع.