الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى المنوزي: تجارب العدالة الانتقالية بين زيف التطابق ووهم التميز

مصطفى المنوزي: تجارب العدالة الانتقالية بين زيف التطابق ووهم التميز مصطفى المنوزي
مدار البلاغة كلها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم ، لأنه لا انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخَاطَب بها ""
-ابن الأثير / المثل السائر (ج 2 ص 4 )
تنطلق الرواية الرسمية من أن تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب تجربة متفردة بخصوصيتها ويميزها بالأساس كونها تمت في ظل استمرار نفس النظام السياسي، وهو توصيف يستبعد واقعة حصول أي انتقال من سلف إلى خلف ضمن مسطرة انتقال الملك وراثيا من ملك إلى ولي عهد، ووفق ما يحددها الدستور المغربي؛ هذه العملية الانتقالية التي تأسست على مشروع شرعية جديدة تروم القطع مع الأوجاع السلبية للعهد البائد، سمي إعلاميا ولاحقا بسنوات الرصاص.
صحيح أنه لم يقع أي انقلاب ولا ثورة ولا حرب أهلية، لكن الانسياق مع هذه الخاصية ، وتجاهل أنه حصل تغيير في القاعدة الاجتماعية للنظام، سواء داخل الجيش أو الاجهزة الأمنية ، ناهيك عن حصول مراجعات مذهبية وسياسية داخل المعارضات الحزبية اليسارية ، هذا النكران والتجاهل يجراننا إلى طرح سؤال الباعث إلى الدفع واستعمال ورقة الشذوذ عن بقية سياقات " العدالات الانتقالية "، ألم يكن العهد الجديد في حاجة إلى شرعية مختلفة تميز ذهنية الملك الشاب الوارث عن عقلية الملك الراحل المُوَرِّث ، شرعية جديدة لا تكفي فيها زعم وراثة فضائل الشرعية التاريخية والوطنية المشتركة مع الحركة الوطنية وفلول الحركة الديمقراطية، والمنتهية اطوارها مع وأد تجربة التناوب التجريبي؟ وأليست هاتان الشرعيتان المتوترتان والمترددتان معمدةً بتداعيات جراح تركة الماضي الأسود، ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في قمتها عمليات الاختطافات السياسية والاغتيالات والإعدامات خارج نطاق القانون والقضاء العادل، ناهيك عن الاعتقالات التعسفية وما يعتريها ويرافقها من تعذيب وسوء معاملة، وكذا طول المدة وهي بمثابة إختفاء قسري ينتهي أحيانا كثيرة بالتصفية أو إطلاق السراح دون محاكمة، وبعاهات مستدامة، وهي عمليات مخطط لها بشكل ممنهج ومتواتر تستهدف الحق في الحياة.
من هنا وجب اعتبارها مجرد عملية إنتاج شرعية حقوقية لصالح مهندسي العهد الجديد، وتعتمد تسوية سياسية بمقاربة حقوقية أطلق عليها نعت " الإنصاف والمصالحة " ، وفي عمقها تفاعل تجاوبي بقصدية الاحتواء وتوجيه دينامية الحقيقة والإنصاف التي أطلقها ضحايا سنوات الجمر أو ذوي حقوق المختطفين والمتوفين باسم منتدى الحقيقة والإنصاف ، الذي كان يشمل جميع المجموعات والفعاليات، بمن فيهم الضحايا المتهمين في قضايا الانقلابات والانتفاضات والعمليات أو النزاعات المسلحة ؛ على امتداد الوطن بأقاليمه الجنوبية، أي الصحراء وما ينجم عليها من تنازع إرادات الانفصال أو الاتصال.
وكانت عناوين المرحلة هي الكشف عن مصائر المجهولي المصير وإنقاذ حيواتهم. وبذلك لم يكن من الداعي التمسك بورقة التميز والاستثناء، لأن الشرعية المنشودة كانت تحتاج إلى القطع مع الماضي والمصالحة في ضوء القطيعة مع المجتمع، ولأننا لم نكن نبحث عن التطابق بين التجارب، لأن ادعاء تطابق التجربة المغربية ادعاء زائف، وبنفس القدر لا يمكن الجزم بأن هناك اطلاقية في الاختلاف فيما بين التجارب، ولا زعم وجود تماثل في ما يخص المساطر والمقاربة، فرغم هيمنة المقاربة التعويضية بالنسبة للتجربة المغربية، فينبغي تقييم وقعها على عملية جبر الضرر الفردي وبناء مقتضيات المصالحة، وذلك في ضوء إمساك الفاعلين السياسيين عن تفعيل الشق السياسي والمؤسستي لتوصيات هيئات الإنصاف والمصالحة، والمسماة وجيهة بمقتضى الخطاب الملكي والتي صادق عليها وأمر بتنفيذها وبدسترتها، خصوصا تلك التوصيات المهيكلة لدولة القانون، والمؤطرة بإصلاح مؤسستي وتشريعي يروم إرساء تدابير وضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة، وقد كان كافيا مواصلة تفعيل مقتضيات المفهوم الجديد للسلطة مع إقرار البعد الاجتماعي في عقيدة الدولة ( الاجتماعية ) وهوية مؤسساتها وأحزابها الإدارية وسياساتها العمومية ، خاصة في ظل تصاعد التنافس حول الشرعيات المالية والاقتصادية وتفاقم مخاطر التنازع حول الشرعيات الدينية والاجتماعية ؟
إننا بصدد مفارقة تشوش على أنفاس العملية المرافقة للعهد الجديد والتي استنفذت ولا يمكن تجديد روحها إلا بإقرار جيل جديد من الإصلاحات التحديثية، استدراكا وتجويدا، في أفق التأسيس للشرعية الدمقراطية والتي لا يمكن تصورها دون تصفية البيئة الحقوقية وخلق شروط انتقال أمني .