الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

خطابي: من ورزازات إلى الرباط.. استعراض مقتضَب لعيد الشغل ما بين الاحتفال «الطقوسي» والاحتفال «الاحتجاجي»!!

خطابي: من ورزازات إلى الرباط.. استعراض مقتضَب لعيد الشغل ما بين الاحتفال «الطقوسي» والاحتفال «الاحتجاجي»!! محمد خطابي
الحدث: “عيد الشغل”/ المكان: ورزازات/ الزمن: نهاية العقد السادس مطلع وأواسط العقد السابع من القرن الماضي.
في تلك الحقبة يستقبل الزائرَ قوس في المدخل الشمالي من المدينة ويودعه قوس في مدخلها الشرقي. وبينهما الطريق الوطنية الرابطة بين مراكش ووزازات، وقصر السوق (الراشيدية اليوم). يسمى هذا الامتدادُ اليوم شارع محمد الخامس. كانت تلك الطريق الوطنية تشق المدينة نصفين شمالي-شرقي وجنوبي-غربي. على امتداد الأول أحياء متناثرة تفصل بينها بساتين معدودة أحياناً ومقرات إدارية تارة إلى حدود آخر حيّ (سيدي داوود). أما الثاني فخلاء لا يبعثره إلا بستانان بجوارهما ضريح ولي يسمى (سيدي اوريزن) وبيت القيّم عليه، فمقرّ مدرسة المعلمين، ثم بعد حين المحكمة الإقليمية (كما كانت تسمى يومذاك)، يليها الحي العسكري...[كل هذه المعالم تغيرت اليوم]. إن تسلك الطريق المذكورة أعلاه أغرتك من جهة اليمين (قبالة بناية مقر البريد) الطريق المؤدية إلى زاكورة وما بعدها (تاكونيت، محاميد الغزلان).
تلك معلومات مقتضَبة عن مكان الحدث اخترنا اختزالها لأن المقام لا يسمح بغير ذلك. أما الحدث (عيد الشغل) (فاتح مايو) فحكاية أخرى؛ ولأن الاحتفال به هنا يومذاك يكاد يكون فريدا وعجيباً بمقاييس اليوم فقد أحببت أن أحدث القارئ عنه بسبب هذه الفرادة.
إنه سلسلة من اللحظات المتمايزة لا يمكن أن يؤدي بعضها إلى بعض حتماً أو ضرورةً. وإليك بيانه:
 
أوّلاً: الاستعراض العمالي
 
يتألف من زرافات من عمال المناجم (منجم بوتازولت أو إيميني، حيث معدن المَنْغَنيز؛ ومنجم بو وازار حيث معدن الكوبالت). يقع الأول في شمالي ورزازات في الطريق الوطنية المؤدية إلى مراكش، ويقع الثاني في الطريق المؤدية من تازناخت إلى أكدز. يُستقْدم العمال من هذين المنجمين إلى ورزازات عبر حافلات وشاحنات المنجَمين. على أني لا أعلم مكان تجمعهم، ولا مكان انطلاق استعراضهم. ولعل ما يشفع لي في هذا الجهل أنني أتحدث من خلال ما اختزنته ذاكرة الطفل الذي كنته.
ينطلق الاستعراض مخترقا الشارع. في الطليعة العمال مرتدين بدلات العمل الزرقاء الموحدة المكونة من سترة وسروال، يعتمرون خوذات واقية بيضاء في واجهتها الأمامية مصباح، وفي القدمين زوج حذاء أشبه بالحذاء العسكري. ثم تليهم شاحنات (ثلاث أو أربع) نصبت فوقها مجسّمات لصخور وكهوف مُصَغرة سوداء ورمادية، ومجسمات عمال يُعمِلون الفؤوس في الصخرة لتهشيمها أو آخرين يستعدون للخروج من الكهف... وإن أَنْس فلن أنسى ما يثيره فينا نحن الأطفال طولُ تلك الشاحنات المستورة عجلاتها بأستار متعددة الألوان بيضاء وخضراء وزرقاء. يمر العمال صامتين تارة، حاملين لافتات، كُتبت عليها عبارات طويلة، زُيّنت برسوم لم تحتفظ منها الذاكرة بشيء، رافعين عقيرتهم بكلام لا نفقه منه شيئاً خلا ما توحي به سحناتهم وأفواههم المشرعة من غضب يزيده التلويح بالأيدي نحو الأعلى كأنهم يهددون كائنات شرّيرة يرونها، ولا نراها نحن. أما المصطفون على جنبات الشارع -من عامة الناس- فيكتفون بالتصفيق دلالة على الإعجاب أو التضامن، لا أدري.
لم يحدث أن رأيت هنا -طوال سنين الاستعراضات هذه- خطيباً نقابياً مفوَّهاً أو غير مفوّه يعتلي منصة منها يشحذ همم العمال... بل لم يحدث أن رأيت هنا منصة ذات صلة بهذه المناسبة. ولن أبالغ إن قلتُ إن استعراض العمال لم يواكبه ولو شرطي واحد، وهل كان في ورزازات رجال شرطة من مهامهم ضمان أمن الاستعراضات وغيرها؟ لكن من باب الحق القول كانت ترابط في المدينة حاميتان إحداهما عسكرية والأخرى قوات مساعدة.
 
ثانياً: قربان عيد الشغل
 
يوجد حتى اليوم في حي سيدي داوود (الحي الذي يلي قصبة تاوريرت الشهيرة) ضريح يُعْقد له موسم في شهر غشت من كل سنة. إلى هذا الضريح يتداعى بعض العمال وبعض المستخدمين والأجراء برفقة عامل الإقليم والمسؤولين الإقليميين عن النقابة المحتفلة، وإمام المسجد الجامع. يتقدم الجمع عجل أو ثور يساق إلى الساحة المقابلة للضريح. يُذبح العجل ثم يُسلَخ. تُختتم العملية هذه بزيارة الضريح ورفع الأكف بالدعاء لأمير المؤمنين ولعامله على الإقليم، ولسائر العمال بالصحة والعافية والحفظ من كل ما قد يهدد حياتهم في عملهم المنجمي... علاوة على التبرع بهبة لفائدة الضريح؛ والغالب على الظن أنها من صندوق النقابة.
 
ثالثاً: الحفل والسّْلْكَة
 
أذكُر أن ثمة إدارتين إقليميتين تحديداً تقعان في الشارع نفسه، ولا تفصل بينهما سوى أمتار معدودات؛ وفي مقريهما تجري وقائع الحفل. سأكتفي بسرد ما شهدته وعاينته في إحداهما لصلة القرابة بيني وأمين مال النقابة المعنية منظِّمة الاستعراض والاحتفال كله.
بعد اجتيازك باب الإدارة المذكورة يقودك ممر إلى ساحة فسيحة تحيط بها تلال من جهتي الشرق والشمال. تُبسَط الحصائر والزرابي في تلك الساحة ويجلس المحتفلون حلقاتٍ حلقاتٍ لا يتجاوز عدد كلٍّ منها ثمانية أفراد. تنقسم الفئات الحاضرة إلى ثلاث: العمال؛ الطّْلبة؛ فرقة أحواش. لكل مجموعة مكان مخصوص لا تزاحمها فيه مجموعة أخرى من الفئات المذكورة. ينطلق الحفل بكؤوس الشاي مصحوباً بقطع البسكويت (من نوع “أربعة”). تُسلّم لكل حلقة علبة بسكويت كاملة من الورق المقوّى (كرطونية) لتفعل بها ما تشاء أكلاً أو توزيعاً... تضم كل علبة مئات القطع ملفوفة في غلاف بلاستيكي شفاف. كان ذاك البسكويت لذيذاً حقاً، أو هكذا أظن. بعد كأس الشاي الأول ينصرف الطلبة إلى قراءة القرآن (يتسلم كل منهم كتيّباً يضم عدداً من الأحزاب يُسمَّى “التفريق”). وحين ينتهون من ذلك يؤتى الجمع بكأس الشاي الثانية ثم ترفع أوانيه لتحل محلها موائد من خشب مسوّرة الحاشية (الميدة، وهو اسمها محلياً). يتحلّق القوم حول الموائد بعد غسل أيديهم، فيوضع على كل مائدة صحن أبيض تتوسطه قطع لحم العجل المذبوح في الضريح بحضور عامل الإقليم وإمام المسجد الجامع، كما أسلفنا. وتوزع على جنبات الصحن قطع مدوّرة من الخبز المحلي (تاونيفت، وهو المسمّى تافارنوت في أماكن أخرى). وفي إثر ذلك تقدّم أطباق الكسكس...
بعد رفع الموائد يكون الاحتفال بِعِيد الشغل -في مقر الإدارة الإقليمية المعنية- قد شارف على النهاية. يرفع المحتفلون أكفهم بالدعاء.... يتسلم إمام المسجد الجامع “بركة” من المنظمين ثم يغادر الطلبة إلى همومهم. أما العمال والمأجورون.. فتنتظرهم فرجة ولعب ورقص يتكفل بها أفراد من فرقة أحواش. تستمر وصلات أحواش إلى وقت متأخر من العشيّ.. وحين تقترب الشمس من المغيب ينفض الجمع على أمل اللقاء في غرة مايو من السنة المقبلة. إنه عيد الشغل. سمعتُ يومذاك أن الإدارة الإقليمية الأخرى تختم حفلها بفرقة من الشيخات مستقدمةٍ من مراكش، والله أعلم. أي أن الاختلاف بين حفلي الإدارتين يكمن في أمر واحد هو غياب ختم القرآن، ليس إلا.
 
على سبيل الختم:
 
كنت أظن أن هذا هو معنى فاتح مايو عيد العمال بعد تواتر الطريقة نفسها والأسلوب نفسه سنين عدداً: استعراضٌ مُقتضَب ثم عِجل يذبح، ثم حفل شاي يليه ختم القرآن، ثم إجهاز على صحون المرق واللحم لحم العجل المسكين... ثم أحواش. ولم أدرك الشكل الغالب (أعني الاحتجاجي) في احتفالات فاتح مايو إلا بعد أن وطئت قدماي عاصمة المغرب، وعلى وجه الخصوص قبل حظر النقابة العتيدة (ك.د.ش) وبعده.