الثلاثاء 16 إبريل 2024
كتاب الرأي

يونس التايب: ضرورة التعبئة لمواجهة الغلاء بتدابير نوعية عقلانية

يونس التايب: ضرورة التعبئة لمواجهة الغلاء بتدابير نوعية عقلانية يونس التايب
كما هو الحال في غالبية دول العالم، تعيش بلادنا على إيقاع ارتفاع كبير في الأسعار، بشكل يضغط على القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة و المحدودة الدخل، ويتسبب في قلق مجتمعي حقيقي بسبب غلاء فاحش زاد في هشاشة الوضع الاجتماعي لفئات واسعة لم تعد قادرة على مسايرة أثمنة المواد الغذائية والاستهلاكية، وأثمنة الوقود التي بلغت مستويات قياسية. 
 
و لفهم أسباب ما يجري في العالم، يتعين استحضار السياق الذي نتج عنه الخلل في توازن السوق العالمي، ألا وهو سياق جائحة كورونا التي عطلت سلاسل الإنتاج بعد إقرار الحجر الصحي ووقف النشاط الإنتاجي في المعامل، خاصة في الصين و دول جنوب شرق آسيا، قبل أن تعود الحياة إلى طبيعتها ويعود الطلب العالمي ليتجاوز المتاح من قدرات إنتاجية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، كرد فعل للسوق الحرة لإعادة التوازن بين الطلب والعرض على أساس أثمان أعلى. وقد أدى، أيضا، ضغط الطلب العالمي إلى ارتفاع أسعار النقل البحري للبضائع، وتكلفة التأمين على الشحن والنقل الدولي. أما في سوق المحروقات، فقد أدى ارتفاع الطلب على البترول والغاز، بسبب تصاعد وتيرة الإنتاج الصناعي عبر العالم، و استقرار الإنتاج الطاقي للدولة المصدرة لتلك المواد في مستوياتها العادية، إلى ارتفاع أثمنة المواد الطاقية في البورصات العالمية، ثم في محطات البنزين بالنسبة للزبناء. هذا بإيجاز، سياق إصابة العالم بجائحة الغلاء كنتيجة لإصابته بجائحة كورونا. 
 
ولعل آخر الإحصائيات التي أتتنا من الولايات المتحدة الأمريكية، تؤكد هذا المنحى التصاعدي حيث ارتفع التضخم، خلال شهر أبريل، بنسبة 8.5% مقارنة مع سنة 2021، كأعلى نسبة تضخم تسجل في أمريكا، منذ 1981. ولم يشمل الارتفاع المواد الغذائية والطاقية، فقط، بل امتد إلى أثمنة الخدمات و حتى أثمنة بيع و كراء المنازل. و نفس الأمر سجل في أوروبا، حيث يشتكي المواطنون من ارتفاع أثمان المواد الاستهلاكية و الغذائية و الطاقية، بشكل دفع عددا من الحكومات لإقرار برامج دعم استثنائي للمحافظة على القدرة الشرائية. 
 
في بلادنا، رغم استفاضة الحكومة في شرح العوامل الدولية الموضوعية التي أدت إلى ارتفاع الأسعار، و تذكيرها المواطنين بأن قرار تحرير الأسعار ووقف دعم المحروقات قد اتخذته حكومة العدالة و التنمية سنة 2014، إلا أن الناس استمروا يشعرون أن الارتفاع في الأسعار ليس كله مبرر، على الأقل بالمستويات التي نراها ويعاب عليها عدم تراجعها حين تنقلب الأثمنة نزولا في السوق الدولية. وبالرغم من التدخلات الحكومية لضبط أسعار بعض المواد الغذائية وتوفيرها بشكل عادي في كل الأسواق المغربية، وتعبئة موارد مالية هامة لدعم الغاز والحبوب المستوردة، إلا أن كل التبريرات التي تم تقديمها لم تنجح في تقليل قلق الرأي العام الوطني بالقدر الكافي. 
 
ربما لم يعد المواطنون بحاجة لمن يشرح لهم الأسباب الموضوعية لارتفاع الأسعار، بقدر حاجتهم إلى من يأتي باقتراحات حلول لمواجهة الغلاء الفاحش، خاصة أن الناس تدرك صعوبة الوضع الدولي المتدهور بسبب غياب أفق وقف الصراع العسكري في أوكرانيا، وعودة التوازن إلى الأسواق العالمية. 
 
ولعل الأخطر هو الوعي بأن الحرب لم تحدث كامل آثارها الكارثية، خاصة على مستوى السوق الدولية للحبوب، مما يجعل القادم أسوأ بسبب عدم استئناف النشاط الفلاحي في أوكرانيا، وبالتالي غياب كميات الحبوب التي كانت تدخل السوق العالمي من ذلك البلد. مما سيجعل دولا عديدة، أساسا في العالم العربي وإفريقيا، عاجزة عن توفير احتياجاتها من الحبوب، ليصبح العالم أمام أزمة غذاء أكبر مما تصورناه قبل شهرين.
 
لكل ما سبق، نحن مدعوين لاستشراف السيناريوهات المحتملة، وتسطير خطط استعجالية للحد من أثر ما يجري، على مواطنينا وعلى اقتصاد بلدنا، وضبط الأفق الممكن أن نسير إليه، إذا استمر ارتفاع أسعار المحروقات وجاءت ساعة الخلل الكبير في السوق الدولية للحبوب، بعد أسابيع قليلة. 
 
من دون شك، الحكومة تعاطت مع ظاهرة الغلاء، عبر استمرار دعم الدقيق و ضمان استقرار أثمنة الخبز، واستمرار دعم مادة الغاز، سواء المخصص للاستهلاك المنزلي أو الموجه للإنتاج الصناعي، كي يستمر إنتاج الكهرباء وبيعه بنفس الثمن، رغم تضاعف كلفة إنتاجه من طرف المكتب الوطني للماء وللكهرباء. كما تم تخصيص اعتمادات مهمة لفائدة مهنيي النقل لدعم استقرار أسعار النقل على صعيد كل جهات الوطن. لكن الواقع الدولي يحمل صعوبات ستزداد تعقدا، لذلك تبرز الحاجة إلى استشراف المستقبل بشكل مختلف، عبر تغيير طريقة التواصل العمومي بشأن ما يجري، وتوضيح أشكال التعاطى الممكنة في حالة استمر ارتفاع الأسعار وازداد الوضع الاجتماعي هشاشة.
 
بطبيعة الحال، لا أحد يؤمن بوجود حلول سحرية، لكن الظرف يستدعي توفر الشجاعة السياسية لدى الحكومة لإعادة ترتيب الأولويات، بعد تغير الفرضيات التي تضمنها القانون المالي لسنة 2022، بروح من المسؤولية الوطنية التي تلزم باتخاذ قرارات تتجاوز المصالح الفئوية لترقى إلى ما تستدعيه صيانة المصلحة العامة، وحماية السيادة الوطنية بمفهومها الاستراتيجي، وتعزيز قدرة الدولة على الحفاظ على التوازنات ومجابهة التحديات المطروحة، وتوفير الحماية القصوى للفئات الهشة والطبقة المتوسطة التي يواجهها عنف السوق والمنطق الليبرالي الذي تتحكم فيه تجمعات نفعية اقتصادية ولوبيات مختلفة تهمها أرباحها أكثر من أي شيء آخر. 
 
في هذا السياق، هنالك تطلع مجتمعي حقيقي إلى اجتهادات حكومية مبادرة لتحديد سقف معين يجب أن يتوقف عنده ارتفاع الأسعار، خاصة بالنسبة للمحروقات. كما أن هنالك إجماع على ضرورة تعزيز آليات ضبط السوق الداخلي عبر التطبيق الصارم لقانون المنافسة ومنع الاحتكار والمضاربة. 
 
ويظل الطموح هو رؤية الحكومة تقبل فكرة تعليق استخلاص جزء من الرسوم الضريبية على بعض المحروقات، لمدة مؤقتة في انتظار عودة الأثمنة إلى مستوياتها العادية على الصعيد العالمي، والاتفاق مع شركات المحروقات، على تسقيف نسبي للأسعار عبر تقليص هوامش الربح، وتعويض ذلك المجهود التضامني للشركات بتقليص حجم الضريبة على الأرباح التي ستحققها خلال السنة المحاسباتية القادمة. من الناحية التقنية ذلك ممكن جدا، و سيكون له وقع إيجابي على المستوى الاجتماعي.
 
هذه اقتراحات قابلة للتطبيق، ومن المشروع أن نتطلع إلى تفاعل شجاع من طرف الحكومة، انتصارا للحكمة على المقاربات "التقنوقراطية" المتحررة من الالتزامات الاجتماعية للفاعل الحكومي. وسيعتبر ذلك، تجسيدا عمليا لإرادة سياسية تبتغي صيانة الطبقة المتوسطة ببلادنا، التي طالما نادى جلالة الملك، حفظه الله، الحكومات السابقة بضرورة دعمها وتعزيز قدراتها لتكون عامل استقرار اجتماعي وتوازن اقتصادي. كما سيسجل التاريخ أن انحياز الحكومة لمصالح المواطنين، وقبولها بذل جهد إضافي مسؤول وعقلاني، هو تعزيز لانخراطها في تنزيل مبادئ الدولة الاجتماعية، بوعي وحرص على إبقاء قيم التضامن والتآزر في المجتمع وفي التدبير العمومي. 
 
لذلك، يطمح المغاربة الحريصون على مصالح وطنهم، و المؤمنون بأن الروح الاجتماعية في السياسات العمومية هي درع حماية الحاضر والمستقبل، في الطريق إلى تحقيق أهداف النموذج التنموي الجديد والالتزام بتقوية الدولة وتقوية المجتمع، على حد سواء.