السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

خالد فتحي: أصحاب ولا أعز.. حين تغتال سينما ما بعد الحداثة الإنسان

خالد فتحي: أصحاب ولا أعز.. حين تغتال سينما ما بعد الحداثة الإنسان خالد فتحي

دفعني النهم الثقافي الذي يسكنني الى أن أشاهد فيلم "أصحاب ولا أعز" على منصة نيتفلكس، إذ رغم أنني لست ممن يجرون وراء الإثارة منذ أن وعيت أثرها المدمر على الحضارة والعلاقات الإنسانية، إلا أني  تفرجت على أبطال هذا الشريط، بعد أن لم يعد ممكنا أن استمر على حيادي، خصوصا بعد الضجة التي خلفها في العالم العربي، وموجة الانتقادات التي طالته، والتي كانت بدورها مدعاة لهجوم معاكس من طرف من ينصبون أنفسهم حراسا "بدون هوادة" "للإبداع بلا حدود" ممن يفعلون ذلك دونما تروي أو تمحيص، حتى حينما يكون الإبداع وحشيا يلغي ويقتل الإنسان الذي من المفروض أنه يتوجه إليه. أو كان مجرد قفز نحو المجهول دون تبين المآلات الغامضة التي يدفع نحوها.

 

من المؤكد أولا أن الصورة وسحرها صارا اليوم من وسائل التأثير الأيديولوجي والحضاري، بل وسيلة فعالة من وسائل الاستعمار والتغرير اللذين  يتجددان ويغيران أسلوبهما باستمرار، حتى ما عدنا نحتاج السيطرة على الأرض مادام بإمكاننا غزو عقل الإنسان واستعباده وضمه إلى مشروعنا من خلال استلابه ثقافيا .

 

عندما نناقش أي عمل فني أو إبداعي كيفما كان، هناك أولا النقاش الذي ينصب على الشكل، وهنا قد بدا لي أن العمل ضحل جدا، لولا أن شهرة النجوم وأداؤهم قد غطيا بتفوق كبير على هذه الضحالة، فقد دارت الأحداث كلها في منزل واحد وبين صالون الضيوف والمطبخ والحمام وحديقة المنزل، أنه لمن مفارقات هذه الضحالة أنها أسفرت مع ذلك عن عمل أثار كل هذا الجدل دون أن يكلف أصحابه الكثير، مما  يدل على أن العالم العربي والإسلامي قد تم اختصاره على شساعته في منزل ولمة أصدقاء، فكان في العمق هو فضاء الفيلم الحقيقي الذي تدور فيه أحداث الشريط. هنا تنقلب المقاربة رأسا على عقب، مما يفرض أن نركز  النقاش أكثر على الجانب الثاني للنقد وهو نقد  الفحوى، أو الرسالة المرادة، أو بالأحرى الخطاب والأثر الذي يتوخاه المنتجون لهذه السلعة السينمائية أو على الأصح لهذا السلاح الحربي الفتاك، فضحايا الحروب ليسوا دائما أرواحا تزهق، بل هم أيضا قيم ومبادئ وذاكرة وهوية وموروث وفرادة تاريخية تتحدى ويخطط لها كي تندثر. فقد تغيرت الحروب كثيرا حتى أنها اصطلاحا قد تعني في مقبل الأيام أفلاما ومسلسلات. إن الفيلم كثيف جدا على هذا  المستوى بإيحاءاته ومخرجاته وأوامره المبطنة إلى العقل الجمعي العربي وكذا لطبيعة الانقلاب في الأفكار والقناعات التي يحرض انبثاقها في بنية هذا العقل .

 

يريد الشريط أن يتبث الكثير. ومن ذلك:

أولا: أن العرب يعيشون حالة من الفصام بين القيم التي يعلنونها وتلك التي يحيون عليها في واقعهم المعيش، فيعتبر أن تلك الشلة هي كل أطياف المجتمع العربي، وبالتالي هو يعطي مبررا لذلك البعض ممن تردى بشعوره وفى حياته الواقعية إلى المنحدر التفكيكي التي سقط فيه  الغرب مفاده أن كل العرب والمسلمين سواء، وأن من مازال منهم متشبثين بشعارات الهوية والمحافظة ليسوا سوى خداعين مرائيين ومنافقين، أو بأحسن الأحول مجرد علمانيين ضالعين في العلمانية كباقي البشر، لكنهم  فقط لا يشعرون، ولو أننا نبحث وننقب كما فعل أبطال الفيلم حين كشفوا سوأة مكالماتهم الهاتفية على العلن، لتوصلنا نحن أيضا  لهذه "الحقيقة". حقيقة أننا صرنا في هذا العالم نمطا واحدا من الأفراد والمجتمعات. وهذه بالطبع رسالة غير صحيحة تريد أن توهمنا أنه لا فائدة من الوقوف في وجه هذا المد الجارف للحياة الخالية من القيمة التي تقدم تدليسا بكونها الحداثة الواجبة على الجميع. أو بالأحرى ما بعد الحداثة التي يستحثنا الفيلم على ولوجها.

 

الرسالة الثانية، هي أن الشهامة والشرف والنجدة والغيرة هي مجرد أمور معنوية، وبالتالي هي قيم غير كمية لا يمكن حسابها كما نحسب القيم المادية الكمية. فعندما نطلق العنان مثلا للغرائز نستطيع أن نحسب ما حصلنا عليه من خلال حساب اللذة. وهذا ما ظهر جليا في الشريط حين تخلي الأب عن واجب الرقابة على ابنته التي تستشيره في شأن المبيت عند صديقها فيترك الخيار لها لتقرر بنفسها علاقاتها ضاربا كل مثل الإباء في الصفر. هذا الاغتيال العمدي للمروءة هو تطويع للذهنية والشخصية العربية لكي تتخلى عن كل ما هو مقدس وما هو معنوي. لأن كونه معنويا يجعله في نظر منتجي الشريط غير موجود، أو في أحسن الحالات متخلفا عن العصر الذي لا يؤمن إلا بما هو مادي. كل هذا لتسهيل الاختراق الثقافي والقيمي وسلخ الشعوب العربية عن هويتها وجذورها وإبعاد كل الشعوب في الحقيقة عن السليقة والفطرة السليمة. لم يستطع الأب لأنه "عصري" و"ديمقراطي" و"منفتح" أن يفعل غيرته، ولم تتمكن البنت أن تفعل عفتها لأن الغيرة والعفة في نظر الأصولية العلمانية التي يروج لها الفيلم ليستا بقيمتين ماديتين يمكن لمسمهما للاعتراف بوجودهما. حبكة الفيلم بئيسة جدا، لكنها مع بلادتها تنطلي على المغفلين، وتخلب لب النخب الانتهازية المستلبة من طرف النموذج التفكيكي المادي والتي لا تنفذ إلى المعنى والخطر الكامن من وراء الصور والأحداث والإيحاءات. إذ تقوم خديعة الفيلم على محاكمة السلوك العربي كما لو أن المفروض فينا أننا بحكم كوننا مسلمين علينا أن نكون ملائكة أيضا، ولذلك هي تستغل ظواهر موجودة بالفعل في مجتمعنا العربي لأجل القيام بتعويض قيمنا بقيم أخرى غريبة عنا لا تحظى بالقبول النفسي لدينا ولو حضرت على مستوى بعض السلوك. فالمثل لا تتحقق دائما وأبدا مائة في المائة لأنها من العالم الميتافيزيقي المفارق لعالمنا. ونحن لسنا في عالم مثالي. هي معنا لأجل أن تكون بوصلة لنا، أن تشكل لنا المثال الذي نرنو إليه، والذي بدونه نتيه ونضيع في هذه الحياة المليئة بالخطايا والآثام. المثل هي المرجعية. والفيلم يعدم كل مرجعية غير دنيوية، ويحل محلها مرجعية السوق المادية، ولا شيء غير السوق.

 

هذا الشريط يتمسح بقيمة الإبداع ليحقق غاية إيديولوجية، ومن انبروا للدفاع عن منى زكي وهي تخلع سروالها، وعن بقية أبطال الفيلم وهم يتعرون تباعا أمامنا من خلال مكالمات الهاتف الخلوي المكشوفة، إنما يفعلون ذلك تحت شعار قدسية حق الإنسان في الإبداع وفي التعبير ولكنهم ينسون أن  قدسية الإنسان نفسه تذوب أمام هكذا إبداع. هذا الفيلم سقط في تناقضات قد لا ننتبه لها. فعندما تكتشف منى زكي مثلا أنها لا تعرف زوجها، وتسيل عبراتها من هول الصدمة، فهذه العبرات دليل استيقاظ الإنسان فيها الذي يرفض الخطيئة ودليل انتصار مرجعية الإنسان على مرجعية الإبداع وعلى مرجعية الحرية الفردية المطلقة التي تتفلت من رقابة الالاه .

 

ومع ذلك ففي النهاية، يصر الفيلم على أن يغتال فينا هذا الإنسان، فيخرج الجميع من ليلة الاعترافات كل مع زوجته الخائنة أو زوجه الخائن، وقد طووا الصفحة، وكان لا شيء قد حدث، يخرجون وقد صاغوا لنا مفهوما جديد للإنسان الذي عليه أن يتشكل وفق رغبات السوق والإيديولوجيات المادية، فللزوجة أن تكون لها حديقتها الجنسية الخلفية وعلاقاتها الحميمية مع من تحب. ولها الحق أن تتزوج بآخر غيره، ولو كانت له أيضا علاقاته الخاصة، للزوجة أن تمنح رسائلها النصية على هاتفها لشخص، والجنس لآخر، وقلبها لغيرهما، ورحمها للإنجاب لواحد آخر غيرهم جميعا. وهكذا وبعد تفكيك الأسرة يتم تفكيك المرأة نفسها إلى أقصى حد، لكأن الممثلين يودون أن يرسلوا لنا إشارة إلى أن الخصوصية تعلو على كل شيء بما في ذلك علاقة الحب والزوجية. هم يغرسون باسم الحرية إسفينا بين الحب والزواج الذين ليس من الضروري أن يكونا متلازمين. وبذلك يبلغون كما قلت بالأسرة أو لنقل بنموذج الأسرة المعروف عبر التاريخ ذروة التفكيك الذي تسعى إليه اصوليتهم العلمانية أو ماديتهم الصلبة أو على الأدق يبلغون بنا كمجتمع ذروة السيولة المائعة التي تسعى إليها السوق التي تنتعش أكثر وأكثر بالفوضى والمشاعية. هذه السيولة تعني أن يكون الفرد وحدة بذاته، وأن تكون الأسرة وحدة أخرى يحافظ فيها الكل على مسافة من الآخر. العلاقة الزوجية وحدة، والعلاقة غير الزوجية وحدة أخرى، بمعنى أن تفكك كل البنى التقليدية للمجتمع وكل الاطارات الاجتماعية المعروفة لتتحول إلى مجرد ذرات تتلاعب بها هذه الرأسمالية المجنونة المتمددة حتى يتأجج الاستهلاك وبدون حدود.

 

حين تكتشف الإخصائية النفسية العازل الطبي ضمن أغراض ابنتها، وتستنجد بالأب ليتدخل، يثير هذا الأخير نظرها إلى أنه ليس من حقها أن تقتحم خصوصيات ابنتها، وأن تفتش حقيبتها. وتتبدل إشكالية القضية من قضية عفة الى قضية حرية فردية، لأن الأهم  هو هذه الحرية الفردية للابنة، وبالتالي يتحول هذا الهروع إلى الأب إلى قتل رمزي لهذا الأب الذي عليه أن يصرف على الأبناء دون أن يتدخل في حياتهم أو يسعى لكي يورثهم قيم الأجداد التي يوحي لنا الشريط أنها صارت بالية ومتجاوزة، كأن السوق، والسينما إحدى الأذرع الفعالة للسوق في كثير من الأحيان، تنازعنا ابناءنا ليتربوا على هديها هي. العلمانية المتطرفة ملة واحدة، نفس النتيجة التي تخلص لها الشيوعية حين تريد أن تنشئ الأطفال وفق رؤيتها، تنتهي لها أيضا الرأسمالية حين تتوحش وتقتل الإلاه، فتأخذ منا الأطفال بالصناعة الإعلامية الموجهة وتبيع لنا سلعة الحرية الفردية فتحرمنا أن نعيش على سجيتنا وفطرتنا كبشر. كل الأيديولوجيات حين تفقد الضابط الأخلاقي تكف عن أن تصبح مفيدة للإنسان بل تصبح مضرة به.

 

الإبداع نعم، ولكن هل نحن مجبرون على ابتلاع الإبداع فقط لأنه إبداع أو لأنه فقط قد أتى إلينا عبر الصورة والسينما، أم لأنه يحقق لنا غاية ما، مثلا ما، سعادة ما. على المبدعين حين يعرضون بضاعتهم أن يقولوا لنا بالضبط ما هو الثمن الذي سندفعه. هذه هي الأمانة ، الثمن ليس فقط هو ثمن الاشتراكات في منصة كنيتفليكس ولكن هناك انهيارات يسببها هذا "الابداع" الملغوم سيكون  لها أيضا أثمان، التفكك الأسري له ثمن، الحرية الفردية إذا انفلت زمامها لها ثمن يمكن أيضا أن نقومه إذا أردتم بالمال. هذا ما يخفيه هذا الشريط وما لا يستطيع أن يتبينه المدافعون عنه. الثمن باهظ جدا وندفعه من كينونتنا كبشر ميزنا الله عن الحيوان، ولكن يصر البعض أن يحرمنا هذه الميزة وأن يمرغنا في أوحال هذه الحياة الأرضية متناسيا أن الإنسان كائن قد نفخ فيه الله من روحه، وهذه النفخة هي هذه المثل التي نتشبث بها ولا نبلغ إليها أبدا، ولكننا لا نلغيها ولا ننكرها لأجل قيم مادية أرضية مرتبطة بالسوق تتغلف بغلاف حقوق الإنسان.

 

ومع ذلك، ليس لأنك تطرح أفكارا في فيلم، ستصبح هذه الأفكار هي الحقيقة أو هي المشروع. لذا يمكن أن نتقبل حق هذه الأفلام في الظهور بالضبط كما من حق بعض العاهات أن تظهر في المجتمع. فأحيانا قد تبرز العاهات في المجال الفني والسنيمائي ولا أقول الإبداعي لأن الإبداع يصون فينا الإنسان قبل كل شيء. وحتى القيم العليا تحتاج إلى قيم هابطة ساقطة. هذه الثنائية هي جوهر الكون والحياة، فهي ما يحدد ويعرف القيم الحقيقية الأصيلة من القيم الزائفة المتوهمة التي تقود إلى هلاك البشر....