الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

خالد فتحي: الجائحة وحقوق الإنسان

خالد فتحي: الجائحة وحقوق الإنسان خالد فتحي

في مقدمة الأسباب التي جعلت العديد من دول العالم تعرف مظاهرات واحتجاجات ضد جواز التلقيح، يوجد هذا المزيج من مشاعر الإحباط والملل واللاجدوى التي أطبقت على الناس مع هذه الجائحة التي تطول وتطول مثل مسلسل ميكسيكي سمج لا ينتهي، إذ ليس الجميع مزودا بما يكفي من الطاقة النفسية الضرورية التي تجعله يتحمل حرب استنزاف على مثل هذا المستوى من الشراسة التي يشنها عليه فيروس بغيض لا ينفك يتحور ويغير الخطط مطيحا بدفاعات الأشخاص والحكومات، فلقد عز لدى البعض ذاك التفاؤل الذي يريهم رغم كل هذه الموجات والإغلاقات والوفيات ضوءا ولو خافتا في نهاية النفق يبشرهم بقرب التخلص من  الكابوس.

 

ولعلنا نستطيع ان نسبر غور أفكار هؤلاء المعارضين، فنخمن أنهم إنما يرتابون في دواخلهم ومع تزايد عدد الجرعات المطلوبة منهم لتحصين المناعة، إن كانوا قد اصبحوا رغما عنهم لقمة سائغة لكبريات شركات الأدوية العالمية التي يشكون أنها تمطط لهم جدول التلقيح إلى مالا نهاية لتراكم فقط الأرباح الطائلة على حساب كل من صحتهم وحريتهم في نفس الآن، الا أن كل عناصر التحليل هاته، وعلى الرغم  من وجاهتها، فإنها في الحقيقة لا تساهم إلا في إضاءة الجوانب الظاهرة من الموضوع، ذلك أننا نعتقد أن رفض جواز التلقيح من قبل هذه الفئة يعود في الحقيقة إلى أمر أعمق من ذلك... إلى سبب نفسي دفين يتعلق بالإيمان المتولد لديها باستحالة الخلاص من الوباء الذي أنهك البشرية مدة عامين، هي تتظاهر احتجاجا على الهزيمة التي تعتقد أن جيوش الخبراء والعلماء قد منيت بها في الحرب العلمية ضد الداء، فلا دواء جذري له لحد الآن، ولا لقاح يحمي من الإصابات مائة في المائة بوسعه أن يرد إلى البشر طقوسهم وعاداتهم القديمة وحياتهم العفوية المطمئنة المنطلقة. ولذلك تتمرد هذه الفئة الغاضبة على المطلوب منها من الإجراءات الاحترازية، وتهرب إلى الأمام، بل وقد تتطرف في موقفها، وتتصرف وكأن الجائحة غير موجودة، وهذا ما يفسر أن نرى ازدحامات ومظاهرات في عدد من دول العالم دون تباعد اجتماعي ولا كمامات، إنها تنشد أو بالأحرى تحتج من أن أجل الحقوق التي قد كانت لها من قبل أن يسرقها منها الوباء، ولذلك لا تتردد أن  تعلن كفرها بجواز التلقيح. جواز التلقيح هذا أصبح يعني لها ترسيم الطلاق مع الحياة الطبيعية لما قبل كورونا التي تتحرق شوقا لها..

 

إنه الإحساس الفادح بنهاية الأمل وبجسامة الخسارة من يخلقان لدى مناهضي الجواز ردة الفعل هاته الرافضة لهذا التحول الهائل الذي يتم ويا لسخف الأقدار على أيدي فيروس لا يرى. هم في الحقيقة يعرفون أهمية اللقاح في الحالة الراهنة، ولكنهم يتخوفون إن استسلموا لجواز التلقيح أن تستمرئ الحكومات هذه الإجراءات فتبالغ فيها، بل ويتوجسون أن يتعودوا هم أيضا إجراءات التقليص من حرياتهم. فلا يثورون مستقبلا ضدها. ولهذا  يمانعون ويمانعون لأن فكرة أن تصير الأحوال الطارئة هي الأحوال العادية ترهقهم وترعبهم.

 

كل هذه التخوفات، وهي نفسها لدى رافضي الجواز عالميا، يمكن الترافع عنها والنضال من أجلها، ولكن دعونا نقول أنه بالنظر إلى دقة اللحظة التي يمر بها العالم، وتعقد الورطة التي وقعنا فيها جميعا، يمكن أن نعتبر أن هذه الدفوعات لا تنفع  في الحقيقة سوى في تفسير السلوك المناهض للقاح ولجواز كورنا، ولكنها لا تسعف أبدا في تبريره بالمرة. ففي الحرب ضد كورونا يجب أن لا تقودنا مخاوفنا وهواجسنا وبشكل أكبر متمنياتنا، بل ينبغي أن نسترشد بالمعطيات الواقعية حسب تغيرات الوضعية الجديدة في الميدان، لكي نقتطف الممكن من الحياة الطبيعية التي قد كانت لنا.

 

نحن نحتاج الى أن نتسلح بالواقعية وببرجماتية مفيدة وذكية  للخروج من الجائحة بأخف الخسائر. ولذلك علينا أولا أن نعي أن القضاء النهائي على الوباء هو مطلب بعيد المنال، فالهدف المعقول الآن هو تدجين الفيروس، وتحويل الوباء الى مرض متوطن تتغلب عليه المنظومات الصحية عبر العالم، وهذا لا يتأتى سوى باستكشاف القواعد الجديدة للحياة ومستلزماتها الطارئة علينا كالكمامة والجواز بطبيعة الحال. ثم إنه يتعين علينا  استيعاب أن الجواز قد صار بطاقة هوية عالمية جديدة فرضتها تصاريف الأقدار والوباء علينا جميعا، ولا مفر من اعتمادها ووضعها في محفظتنا جنبا إلى جنب مع باقي البطاقات الكثيرة الأخرى التي نحتاجها. خصوصا وأنها تحمل علامة وأسماء الحاكمين الفعليين للعالم... الشركات العابرة للقارات التي تمسك منذ زمن بدل السياسيين بخناق الاقتصاد العالمي. الأمر جد معقد، والشعوب التي انتشت وهللت للعولمة، ها هي تكتوي بوجهها الآخر وبآثارها السلبية الوخيمة. وها هي البشرية مقبلة على عولمة من نوع خاص او لمرحلة جديدة منها ينتقل خلالها الاقتصاد ومن ضمنه اقتصاد المرض دون أن يتنقل  البشر الذي سيكون عليه أن يبقى على بعد.

 

كورونا قلبت كل شيء، هي تصوغ عالما جديدا رغما عنا، ليست كورونا باللقاحات والأدوية والاحترازات فقط، بل هي عادات جديدة وأوراق جديدة وحتى أدب جديد سيطل علينا، وفن ورواية وإبداع، ومن ثمة هي نظام عالمي آخر وحقبة تاريخية أخرى، بقيم ومفاهيم مختلفة ذات إهاب جديد. ولذلك علينا أن نعيد من ضمن ما سنعيد مجبرين  تعريفه من مفاهيم، مفهوم حقوق الإنسان، من منا كان يتخيل الى وقت قريب أن الكمامة ستصبح من ضمن الحقوق جنبا إلى جنب مع حق التعبير، وأن اللقاح سيصبح حقا وجوديا للبشر، وأن الجواز دليل على التمتع بحقوق المواطنة وعلى اجتماعية الدولة؟؟. هذه هي الطفرة الثقافية التي ينبغي أن يقوم بها المفكرون ومنظرو حقوق الإنسان، إذ لا يجب أن نبقى متمترسين عند الأفكار والنظريات التي كنا عليها مرحلة ما قبل كورونا، خصوصا والعالم المادي كله يتغير من حولنا. ولذلك لا ينبغي النظر إلى الجواز كتقييد للحرية، بل النظر اليه على أنه تحرير للإنسان في ظل المعطيات العلمية الحالية من أنانيته، ودفعه إلى التلقيح؛ إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجل الآخرين الذين يتقاسم معهم سفينة الوباء، وهو  دليل على أننا قد زودناه بالبندقية التي تنفعه للدفاع عن نفسه في الحرب المفتوحة لكورونا. إنه إثبات أيضا يقدمه على انخراطه في تحقيق الصالح العام الذي يتحدد الآن أكثر ما يتحدد في بلوغ المناعة الجماعية.

 

ألم ينادى الكل وخصوصا الأطياف السياسية والحقوقية بضرورة بعث الدولة الاجتماعية المتدخلة من مرقدها، تلك الدولة الراعية التي اشتقنا إليها، والتي تستثمر في المتطلبات الحيوية  للإنسان، وفي طليعتها الصحة، فهل يتصور تدخل للدولة دون حد أو لنقل دون عقلنة جديدة لحرية الأفراد؟؟؟. هل يستقيم أن نطلب من الدولة الصحة والحرية في نفس الوقت دون أن نترك لها حق المواءمة بين الحقين؟؟؟. لقد تحدث الجميع عند انطلاق الجائحة عن التوحش الاقتصادي والليبرالي الذي أدى إلى نكبة العالم الحالية، ودعا إلى تركه، واعتماد قيم جديدة، ولكن هل من المعقول أن ندعو للحد من انفلات الاقتصاد ونحل انفلات وتوحش الحرية الفردية مكانه؟ هل  نتظاهر من أجل الحق في عدم التلقيح، وهو ما يعني التظاهر من أجل حق الفيروس في الفتك والانتشار؟؟.

 

لامجال هنا أبدا لإعمال مبدأ حرية التصرف في الجسد .لأنه يستعمل في غير محله، فمن لا يتلقح يريد حسب المعطيات العلمية الحالية  أن يتصرف في أجساد الآخرين بتعريضها للعدوى والموت. ذلك أنه مع تلقيح أكثر من 50% من المجتمع قد تغيرت الوضع، أظن أن الإصرار على هذا الموقف سببه الخوف من أن يترتب عنه إعادة النظر في هذا المبدأ المثير للجدل مما يعني انهيارات أخرى لحقوق أخرى لازالت محط نقاش. وهو ما قد يتمخض بالخصوص عن مفهوم جديد لحرية الجسد يكون أكثر عقلانية، مفهوم  يدور في فلك الاخلاق والفطرة السليمة. وهذا ما لا يرغب فيه الكثير من الحقوقيين.

 

إن المشكلة التي يحياها العالم مركبة، وعلينا أن نقاربها من زوايا متعددة طبية وصحية أولا، ثم اقتصادية واجتماعية، وحقوقية، وقيمية ثانيا. من الخطأ الفادح للمرء النظر للموضوع من زاوية اختصاصه فقط، ولذلك فقبل أن نتظاهر ضد جواز التلقيح يجب أن تتحقق أولا إن كان يجب أن لا نتظاهر من أجل الحق في جواز التلقيح، هذا هو  المطلب الأول الذي ننشده من الدولة الاجتماعية التي نأمل تشييدها في عالم كورونا. فالواجب أن نتعرف إذن على الحقوق الجديدة للإنسان التي سيحددها هو بنفسه وفق معاناته ومآسيه الجديدة دون ضغط او توجيه، لتحيين نظرية حقوق الإنسان وتمنيعها...

 

أظن أن مثل هذه الطفرات هي أيضا من ضمن التغييرات التي يحبل بها بطن الجائحة. وهي التغييرات التي لا مناص لنا  منها، مهما كانت قاسية ومرة المذاق.