من حسنات الفايسبوك أنه يذكرنا من حين لآخر بإشراقات منشورة سابقا. في هذا الإطار تم" ترطيب" ذاكرتي بمقال/ وفاء نشرته منذ سنة تكريما للمدرسة الابتدائية التي درست بها. ومن حسن الصدف أن التذكير تزامن مع الغضب الشعبي الذي يعرفه المغرب حاليا ضد استهداف المدرسة العمومية،والذي تجلى في المسيرات التي احتضنتها العديد من المدن يوم أمس الأحد 18 دجنبر 2016 ضد المس بمجانية وبجودة التعليم ببلادنا. فيما يلي إعادة لما نشرته لأشرك الأصدقاء في هذا الحنين وفي هذا الوفاء لرجال التعليم الذين درسوني.
"صباح يوم السبت 19 دجنبر 2015 زرت المدرسة الابتدائية التي درست فيها بحي سيدي البرنوصي بالبيضاء. المدرسة كانت تسمى آنذاك "المدرسة الجديدة"، واليوم تغير اسمها إلى "الإمام علي". لكن أنا وأبناء جيلي لم يسبق إطلاقا أن استعملنا الأسماء الرسمية. كنا -وما زلنا- نسميها مدرسة "لمغبر"؛ نسبة إلى مديرها الأستاذ لمغبر رحمه الله. كان المرحوم لمغبر رجلا فاضلا جدا وأنيقا ولطيفا وصارما، والأهم من هذا أنه كان عادلا ومحبوبا من طرف كل التلاميذ. كان حي البرنوصي آنذاك من أكثر الأحياء تهميشا بالبيضاء (لا تعبيد ولا إنارة عمومية ولا رصيف ولا شجرة)، وكنت مع أبناء جيلي نتسابق للوصول للمدرسة، ولما ينتهي الدرس كان العديد منا يرفض المغادرة: السبب هو أن ساحة مدرسة لمغبر كانت هي الفضاء الوحيد تقريبا بالحي "لي مدصص"، أي مبلط، وكانت هي الساحة الوحيدة بالحي التي توجد فيها "الزعلولة" و"طوبوكة" والأشجار. لم يكن لمغبر يأبه بتعليمات الوزارة ويغلق المدرسة، كان، رحمه الله، يترك التلاميذ يلعبون إلى حدود "السخفة". فنحن بالنسبة إليه لسنا تلامذته بل أبناءه، والمدرسة ليست ملكا للوزارة بل كان يعتبرها ملكا لنا. ومما كان يجعل تعلقنا بالمدرسة قويا أن لمغبر كان يترك المطعم المدرسي مفتوحا طوال اليوم، ففي أي ساعة أحس تلميذ بالجوع يأخذ ترخيصا من الأستاذ ليغادر القسم وينزل للمطعم يأكل ويرجع.
كانت امي نجمة (توفيت منذ حوالي 55 شهرا رحمة الله عليها) هي المسؤولة عن المطعم، وكان الطعام متوفرا وبغزارة.. لكن كان معظمنا من التلاميذ -وأنا منهم- يفضل الخبز والطون.
كانت المرحومة أمي نجمة (كنا نناديها بـ "مي الناجمة") تعطي لكل تلميذ كوميرة (الكومير في ذلك الوقت كان كبير وبنين عكس اليوم) مملوءة بالطون، ومن كان يسكن بعيدا في الدواوير بالحي الصناعي البرنوصي كانت حصته مضاعفة.
اليوم زرتها للحنين الذي شدني إلى إحدى أبهى فترات طفولتي وأيضا وفاء للمدير لمغبر الذي كان يدير المدرسة ووفاء كذلك لرجال التعليم الذين كنت محظوظا بالتتلمذ على يدهم بمدرسة لمغبر، لتفانيهم وحرصهم على أمننا وتعليمنا. صراحة كانوا في غاية النبل والإنسانية.
صراحة، حظوتي أني لم أنعم بأساتذة رائعين في المرحلة الابتدائية فقط، بل في كل مرحلة كان الله يسخر لي أساتذة -كنا- نتعامل معهم وكأنهم من أفراد العائلة، سواء في الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي: كلهم كانوا منارات أضاءت لنا الطريق.
لما زرت مدرسة لمغبر (الإمام علي) اليوم السبت، لم أسعد لأني استرجعت ذكريات طفولتي فحسب، بل سعدت لأني وجدت المدير الحالي الأستاذ حسن العروي، يسير على خطى أسلافه في الحفاظ على توهج المدرسة وتألقها، إذ أبرم شراكة مع جمعية فرنسية ema لتجديد وترميم المؤسسة، فضلا عن إصلاح شامل للمراحيض وإنجاز قاعة متعددة الاستعمالات لفائدة الأنشطة المدرسية. وسعدت أكثر لما أسر لي الأستاذ العروي -الذي كان برفقة الزميل والصديق عبد الله الابيض الذي يدرس بنفس المدرسة- أنه درس المستوى الخامس الابتدائي بنفس المؤسسة.
فتحية للمرحوم لمغبر، وتحية للمرحومة "مي ناجمة"، وتحية لكل رجال التعليم الذين كان لي الشرف في التتلمذ على يدهم، وتحية لكل رجال ونساء التعليم بالمغرب.
فإذا كان الشرق أرض الأنبياء، فإن المغرب هو أرض الأولياء. أو ليس الأساتذة في مرتبة الأولياء. إذ أن المعلم كاد أن يكون رسولا".