الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي: الحزن في زمن الكوليرا

ميلود العضراوي: الحزن في زمن الكوليرا ميلود العضراوي

جلس "غابرييل غارسيا مركيز" على كرسي متهالك في مقهى شعبي في إحدى القرى القريبة من صنعاء وأمامه تبدو "البيوت الواطئة" مهدمة جراء القصف الذي طالها ليلا واستمر إلى غاية منتصف النهار. الهجومات المتبادلة بين الحوتيين والقوات الشعبية والجيش من جهة وطيران الحلفاء العرب من جهة أخرى، دمر تدميرا نهائيا الأحياء السكنية والقرى الواطئة في وسط الجبل وسفحه.

نظر غابرييل غارسيا مركيز إلى أقصى الشارع الذي غطت نصفه الأعلى الحجارة المترعة بشدو والمتراكمة على شكل اهرامات صغيرة ، فرأى مجموعة من العربات تنقل مصابين لا تبدو عليهم آثار الحرب؛ لا جراح ولا دماء ، بل أجساد سليمة توضع على ناقلات التمريض ويذهب بها سريعا إلى المستشفيات، بعضها ملفوف تماما بأغطية بيضاء وبعضها في توابيت ونقالات خشبية.. في حين كان رتل من الجنود يوجهون فوهات بنادقهم إلى حشد من المواطنين أكثرهم نساء وأطفال ينامون في فناء المؤسسة الخيرية التي اكتظت بالوافدين من المرضى والمصابين بأعراض قاتلة. طأطأ غابرييل غارسيا مركيز رأسه في خزن وقال : انها الكوليرا..؟ ثم عاد وطلب كوبا كبيرا آخر من الشاي المسخن على الطريقة اليمنية وأخرج من جيبه ورقة بيضاء وقلم رصاص وكتب ما يلي:

صراع القبائل في اليمن لن ينتهي بقيام دولة حقيقية في هذه البلاد، لأنني على يقين أن القبيلة لا يمكن أن تتحول إلى دولة..وأن العرب في الخليج يقاتلون ليل نهار من أجل هذا المبدأ، وسيحاربون بعضهم البعض مستقبلا لهذا السبب، لأن هذا ما فعلوه في الماضي في سنوات الستينات. اليمن هي بداية العرب ونهايتهم.

توقف قليلا وسحب قلم الرصاص من الورقة وتأمل المنظر البشع للمدينة والمهدمة واحنى رأسه وكتب : إن البترول الذي خرج من صحراء العرب في بداية القرن الماضي ووفر الأموال الطائلة والبناء والتعمير والرفاهية المفرطة ، وفر أيضا الغطرسة والتعالي والجبروت وبدل أن يسهم في بناء سعادة هؤلاء العرب ، كان سبب تعاستهم ونهايتهم الوشيكة.

وأضاف غابرييل في الورقة الصغيرة :

لم أجد مقابلا بين الحب في زمن الكوليرا والحرب في زمن الكوليرا في روايتي " الحب في زمن الكوليرا"  والآن ادركت بعض الغموض الذي كان يعتري الموضوع اثناء كتابتي للرواية ،عثرت على اختلال في المعنى و تفاوتا في بنية النص غير المقروء والنص الذي يوجد أمامي، حيث تجري أحداث مأساة الإنسانية كاملة تختصرها العين اختصارا شديدا ، أراها وأعيشها من وراء نافذة هذا المقهى الجبلي المنعزل والموغل في البعد، لهذا قررت أن أعيد التوازن لنص رواية "الحب في زمن الكوليرا" وأكتبها من جديد.

توقف الكاتب الكولومبي الأعظم في تاريخ كولومبيا وأمريكا الجنوبية ووضع رأسه على الحائط وتأمل قليلا، تناول قلم الرصاص من جديد وكتب على ما يلي:

أنا على الجبهة بالذات ، هذا موضع أكثر مأساوية في تاريخ البشر وغير لائق للكتابة ، ولكن ما يجري الآن في اليمن لا علاقة له بحضارة الإنسان عبر الدهور، إنه منطق جديد لتدمير الحضارة على اعتبار آن اليمن أم الحضارة وكانت دوما في مرمى نيران المقاتلين الأجلاف الذي يأتون من كل مكان مساقين بدافع الحقد والكراهية والخوف من الرفاه والعقل والفن والمعرفة. هؤلاء هم الذين دمروا سد مأرب وليست الجردان كما روى التاريخ المزيف .الأجلاف البرابرة يقفون في كل مكان، يمتطون ركاب الصراع الاستراتيجي الذي اختاروه مطية لتدمير المنطقة وقطر عدوا محاربا مع الإرهابيين، فخلقوا اكبر كارثة يعرفها القرن الواحد والعشرون ؛ منعوا الإعلام من عبور المنطقة وعتموا على آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجرين من ديارهم والمأساة لا تقف عند هؤلاء بل يعاني الملايين من الأفراد المجاعة والأمراض الفتاكة، سكان القرى الجبلية معزولون عن العالم لا تصلهم المعونات الغذائية القادمة من أوروبا، أرى جثامين الأطفال في طابور طويل محمولة على أكتاف الشباب الذين ما زالوا قادرين على الحركة، وأرى الباقين منهم يركضون حفاة شبه عراة في المسارات الترابية للقرية ويلعبون في الاليات العسكرية المدمرة. الجنود لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور والمزارعون لم يعد لهم بساتين ولا حقول يشتغلون فيها والعمال كذلك، دمرت الحرب أوراشهم الصغيرة وانتهى كل شيء.. يضيف غابرييل غارسيا ماركيز قائلا : انها مأساة الإنسانية بامتياز، فلماذا يغض العالم الطرف عن هذه القطعة من الكرة الأرضية التي صارت جحيما.. أتوقع كارثة مجاعة قريبا وأكبر عدد من ضحايا الكوليرا عبر التاريخ.. كارثة لم تحدث منذ عقود... حينها ماذا سيفعل العالم الذي أخذ 450 مليار دولار رشوة ليصمت عما يجري ؟ كيف سيتعايش مع ضمير الحضارة والنور والإله الذي يعبدون ؟ اليمنيون فقراء العالم بامتياز والحرب أطبقت عليهم ليموتوا جملة ، واختار سادة الديمقراطية في كل مكان ان ينتهي هؤلاء بدون ضوضاء . صدى الإغاثة تلاشي سريعا والمنظمات المنقذة تصرخ على كل أسقف العالم دون جدوى، وما يصل الى اليمنيين من مساعدات تلهفه ايدي الفساد كما هو شأن المليشيات في كل بلاد العربان والباقي تصادره الفرق المسلحة، تماما كما كانوا يفعلون في افريقيا خلال الثمانينات والتسعينات والآن. اليمنيون لا يستطيعون عبور البحر نحو اوروبا كلاجئين لأن اليمن بعيدة جدا عن أوروبا وعن العالم ؛ بعيدة عن الولايات المتحدة الأمريكية وعن العرب الذين دخلوا في حلف انتهازي يجامل السعودية ضد إيران من أجل الدعم والمساعدات المالية، طيران السعودية المشكل من اسراب مستوردة من أمريكا وفرنسا وانجلترا تقصف في كل اتجاه مرة في الحوتيين ومرة في غيرهم وأكثر ضحاياهم المدنيون والسكان؟ متى يستفيق العالم وينظر إلى الصور القليلة القادمة من جحيم الحرب الأهلية في اليمن. الوضعية تقول ان أسوأ بؤرة توثر في العالم هي سوريا واليمن، واليمن أكثر سوءا فهي الآن تحت ظلال وباء قاتل يخيم كالموت فوق رؤوس اليمنيين ، لقد تفشى مرض الكوليرا وحصد ملايين من الأرواح بسبب تلوث المياه والمجاعة التي تهدد سبعة ملايين شخص بينهم نحو مليوني طفل يعاني سوء التغذية الحاد والإسهال والموت جوعا... يا إلاهي لماذا يصم العالم ادنيه  ويغمض عينيه عما يجري ؟ لقد صار حوالي 9 ملايين فرد غير قادرين على  تأمين وجبة غذائية واحدة في اليوم.

وضع الكاتب الكولومبي نقطة وعاد إلى السطر وكتب؛

 هل من عاقل في هذا العالم ان يتدخل ويوقف الحرب كي يتمكن المانحون ومنظمات الغوث الأممي الإسراع  بتوفير الأغذية والتموين لإنقاذ الأرواح وتفادي المزيد من انحدار الاسر الفقيرة في اليمن الى حافة المجاعة والموت، فكل عام يمضي على الصراع في اليمن يدفع أكثر من مليوني شخص إلى حافة المجاعة والموت، علما ان البلد المكون من 18 مليون نسمة صار قريبا من نصف العدد.

امتلأت الورقة عن آخرها ، فتوقف غابرييل غارسيا ماركيز قليلا وزفر زفرة طويلة ، ثم اخرج ورقة أخرى وكتب ما يلي :

أنا غابرييل غارسيا ماركيز أدين العالم الذي حولي لأنه صامت يتفرج على ما يجري في ارض الحضارة الأولى والخصب وبلاد الزرع والضرع منذ مطلع التاريخ ، ها هم ابناؤها محاصرين مجوعين مشردين. الأحلاف العسكرية من الطرفين تهاجم الأهداف المدنية عن قصد وكلها أعمال إجرامية تعد انتهاكات صارخة للقانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان. أدين موقف "غوتريس" الأمين العام للأمم المتحدة لأنه لم يتهم السعودية وإيران مباشرة بالاعتداء على حقوق الإنسان والقيام بجرائم الحرب. اليمن مسرح للموت كبير وصامت لا توجد صحافة وليس هناك كاميرات ترصد موت المدنيين بالآلاف ،"انهم يموتون في الوديان البعيدة دون ان يعلم العالم بذلك" إن اليمن الآن" صار كومة من الأنقاض، ويعرف أسوأ وأعظم جريمة ارتكبت ضد الإنسانية على وجه الأرض، انه شعب بكامله يموت وبلد يحترق واجيال تباد تحت نار هادئة وعالم أصم أعمى لا يرى ولا يسمع .؟

أنا غابرييل غارسيا ماركيز كاتب من كولومبيا وصاحب جائزة نوبل للآداب وكتابي" مائة عام من العزلة"  و"الحب في زمن الكوليرا" الأكثر انتشارا في العالم، اتبرأ من انسانية القرن الواحد والعشرين واشهد على سلبية الإعلام والثقافة والآداب اتجاه ما يتعرض له الإنسان من اعتداء في كل شبر من هذا العالم . لهذه الأسباب مجتمعة " استقيل من الأكاديمية السويدية للآداب والعلوم الإنسانية واتخلى بمحض إرادتي عن جائزة نوبل للآداب وأقايض بقيمتها ماء صالحا للشرب وغذاء وكسوة للأطفال وسقف آمن للأسر وأحمل مسؤولية من يموتون عطشا تحت الأنقاض ويمطرون من السماء بنيران الموت لحكومات العالم وديمقراطية الغرب."

الإمضاء غابرييل غارسيا ماركيز