لا يحب أمين معلوف كلمة "جذور". يقول إنها بمثابة سجون مخفية تحت الأرض. تمنع الحرية والرؤية والتطواف في المعمورة. وهو يحلل الهويات، يصف وعورة الالتصاق بها، وقدرتها على تزكية السعار والعنف. لا يملك لذلك "وجهة نظر سياسية" مطابقة لما هو "صائب سياسيا" (politically correct) في منطقتنا.
في كتابه ما قبل الأخير، "التائهون" (2012)، يعود الراوي إلى بلده، لبنان، للمشاركة في دفن أحد أصدقائه القدامى. يقرّر أن يجمع بهذه المناسبة أصدقاء مرحلة الشباب الموزّعين في أنحاء الكرة الارضية. من بين اولئك الأصدقاء، نعيم، اليهودي، الذي هرب من لبنان في بداية الحرب الأهلية. نعيم اختار، مع عائلته، اللجوء إلى البرازيل، لا إسرائيل. "لماذا؟" يسأله الراوي؟ لأن "الطريق الذي اعتمدته إسرائيل لا يقنعني. ولكن لا أملك بدائل عنها، أقترحها على الاسرائيليين. لذلك، أبتعدُ عن الشرق الاوسط كله، أصمت، وأصلّي" (ص.288).
ليس الروائي محللاً سياسياً، ولا "مناضلاً" متفرغاً، في هذا الحزب او ذلك. ومواقفه السياسية ليست بالضرورة مطابقة لرؤية الاكثرية، خصوصا اذا كانت هذه "الأكثرية" مغرقة بالشعبوية والديماغوجيا. ومعلوف، في هذه الرواية، كما في كتبه السابقة واللاحقة، يتفرّد، عبر شخصياته، بصياغة مواقف سياسية، تحتاج إلى مقال آخر لتفنيدها. ولكن الآن، اردتُ أن ألقي ضوءا قليلاً على هذه المواقف، لكي أضع ظهوره على شاشة اسرائيلية في سياقه الخاص به. قد يكون معلوف قد أخطأ، ليس بمعناه هو، إنما بمعنى ما يضخّه الأستبلشمنت السياسي في بلادنا؛ وآيته ذاك الوسواس الهستيري من أي لمس أو شم أو استماع أو رؤية ما هو اسرائيلي. ظهر معلوف على الشاشة الإسرائيلية ليتكلم عن كتابه الأخير "كرسي على ضفة نهر السين"، وكان مشوّقا وبليغا في عرضه لطبائع من سبقوه إلى الأكاديمية الفرنسية، من مونتيسكيو إلى كلود ليفي شتراوس...
فكان اصطياده سهلا على يد أحد الصحافيين الممانعين. صحافي يصف نفسه بـ "المثالي" الذي "لا يفهم شيئا عن قواعد اللعبة"... يكتب مقالا قبيحاً عن معلوف، يوصمه بـ "الغطرسة" و"الفجور" وبـ "شاهد الزور"، و"المبايع رمزيا لإسرائيل"، و"الضارب بعرض الحائط بالمبادئ الاخلاقية" الخ... ليختم مطالبا إياه بـ "الاعتذار عن هذه السقْطة"... وإلى ما هنالك من ردح ناجح، ولّد أرداحاً، ما زالت تتناسل؛ توجّت في نهاية الأسبوع بـ "وقفة" في مسرح المدينة، أصدرت بياناً يطالب "الدولة اللبنانية بأن تسائله (أي معلوف) والقضاء اللبناني بأن يطبق القانون، فما أصعب أن يأتي يوم محاسبته أمام القانون أو تجريده من الجنسية اللبنانية ومنعه من دخول الأراضي اللبنانية". لم يتجاوز عدد "المناصرين" لهذه الحملة العشرة، أو الخمسة عشر شخصا؛ ولكن يُعتمد بعد ذلك على المفعول "الجماهيري"، في هذه اللحظات العصيبة التي يمر بها "الفكر الممانع".
لماذا عصيبة؟ لأن هناك فضيحة تلوح في الأفق الشرق الأوسطي. خلفيتها وقوف "محور الممانعة" مع بشار باسم فلسطين، اللازمة التي تلعب دور الغطاء الكثيف لكل جرائم بشار وداعميه من إيرانيين و"حزب الله" وروس. أما مكمن الفضيحة، فهو ذاك التنسيق الروسي-الإسرائيلي، منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا، وقد ارتدى سمة "الصداقة" في زيارة نتنياهو الأخيرة إلى روسيا؛ حيث أهداه "أبو علي" بوتين دبابة اسرائيلية كانت سوريا غنمتها في حرب 1982؛ وهذا فعل رمزي شديد السلبية بالنسبة لسوريا، يسجّل من خلاله بوتين درجة "الصداقة" التي تجمعه ببوتين، ودرجة التبعية التي تحكم علاقته بسوريا بشار الأسد؛ خصوصا أن هذا الأخير لم يتفوّه بكلمة واحدة عن تلك الصداقة الروسية الإسرائيلية المريبة.
الآن، إذا لم يرَ كارهو التطبيع في هذه الصداقة نوعا جديدا ناشئا من التطبيع غير المباشر بين نتانياهو وبشار، بواسطة بوتين، فهذا يعني إنهم ما زالوا أسرى التعريف العُصابي، شديد المحلية، لمعنى التطبيع؛ ليس من مصلحة الممانعين التكلم عنه على كل حال، وإلا انتفت تماما عقيدتهم، وصاروا بلا معنى ولا دور. فكان اصطياد أمين معلوف خير بديل عن فضحية التطبيع غير المباشرة بين الأسد وإسرائيل.
عودة إلى أمين معلوف، ومقارنة بين "سقْطته" وسقْطة بشار التطبيعية. أيهما أقل، أو أكثر ضرراً؟ أن يعرض أديب على شاشة إسرائيلية محتوى كتابه الجديد؟ أم أن ينسق الإسرائيليون مع الروس من أجل إراحة بشار في حربه على شعبه وعلى سوريا؟
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)