الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد اللطيف برادة: العقاد واللوحة التي اسعفته من الضياع

عبد اللطيف برادة: العقاد واللوحة التي اسعفته من الضياع

كان عباس محمود العقاد يمثل من دون شك بفكره ونقده ومواقفه قارة ثقافية شاملة  وكيف لا وهو الذيصال وجال في كل دروب المعرفة فأثارما اثاره من المعارك مالم يثره أديب أومفكر قبله  الا انه كان للعقاد  كذلك الى جانب  عوالمه الادبية جولات اخرى لقد تم اهمالها اجد انه لا بد من اماطة اللتام عنها حتى تكتمل الصورة واقصد هنا  تجاربه في عوالم المراة والحب وكيف لا وهي تجارب كان لها اعمق التاثير في شخصيته  وفي شعره الشيء الذي يحفزني الان للتطرق الى هذا الجانب الانساني الذي كان له اشد التاثير في بلورة  ملكة الشعر لذى ادباء كثر وخاصة لدى شاعر مرهف كمثل العقاد

 ومع ذلك قد نجد  ومن دون ان نعرف السبب ان البعض من النقاد  قد قدروا سوء التقدير هذا الجانب  الى حد اعتبار العقاد عدوا للمرأة   استنادا  الى ما تميزت به  معاركه  الصحفية مع بعض النساء  من سخونة شديدة  ونقد لاذع  متخدين من ذلك حجة ومتجاهلين  انه كان في الواقع للعقاد مواقف جد مساندة للمراة بل انه  كان في الواقع  من اشهر الكتاب الدين دافعوا عن المرأة في كتاباتهم وان كان من زاوية محافظة كما انه قال فيها شعرا اعذب يستحق الاشادة به

نعم لقد قال العقاد شعرا في المراة  وحتى ان لم ياتي ذلك مسرفاً في العاطفية كشعر الرومانسيين، ولا موغلا في العناية  بالغزل كمعاصريه، ولا هو بشعر الحواس  بقدر ما هو شعر المشاعر والعواطف العميقة  الذي غالبا ما كان يغلب عليه طابع اليقظة والوعي وهو الطابع الذي لم يمنعه من  التغزل بابيات عفيفة في جمال المراة والحب شانه في ذلك شان كل مبدع عظيم

هكذا وان كان العقاد قد قضي معظم حياته وحيدا، لم يتزوج وبالتالي لم تكن له عائلة خاصة وأولاد  فهو لم يعش كما يتصور الناس كالراهب  مكرسا حياته كليا في مرحاب الادب فقط بعيدا عن المغامرات العاطفية التي غالبا ما تحفل بها حياة مشاهير الادباء

  بلا لقد تدوق الاديب  طعم الحب أكثر من مرة،اذ كان له في الحب  تجارب كبيرة اتذكر منها حسب ما اطلعت عليه تلاث تجارب على الأقل، فكانت التجربة الأولى هي حبه للأديبة مي زيادة، وكان حبا هادئا ليس فيه عنف ولا توتر، ويمكن القول إنه كان حبا روحيا لم يتجاوز حدود التعبير عن نفسه بلطف ونعومة في بعض الرسائل والقصائد الوجدانية.
الحب الثاني في حياة العقاد كما يروي الناقد رجاء النقاش في كتابه "أجمل قصص الحب من الشرق والغرب" كان حبا عنيفا، ولكنه انتهى نهاية حزينة جعل العقاد يقول عن نفسه "إن الناس الذين يشيرون لي بأصابعهم لا يعلمون أنني من أشقى الناس وأتعسهم".
كتب العقاد قصة هذا الحب في روايته الوحيدة "سارة"، وجاءت النهاية الحزينة لأن العقاد امتلأ بالشك في حبيبته وظن أنها تخدعه وتخونه مع غيره، ولم يحتمل احتمال علاقة تعاني من الشك، فانقطعت الصلة بين الحبيبين.. كانت الحبيبة تعيش مع عائلتها في مصر، وكان اسمها "إليس".
بعد أن انتهت قصة "إليس" وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبّها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة.
لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.
كان العقاد يعترض على عمل مديحة، حيث كان يرى أن ذلك يضع نهاية للحب الذي ملأ قلبه، لكنها لم تتراجع عن عملها بالسينما، وسرعان ما أصبح لها جمهور كبير من المحبين والمعجبين، وأدرك العقاد أنه لن يستطيع تحمل هذه العلاقة فقرر أن يقطعها نهائيا، لأنه لو استمر في هذا الحب فلن يكون أكثر من واحد بين عشرات من الذين يلتفون حول النجمة ويقدمون لها الإعجاب والورود.
دخل العقاد في معركة هائلة مع نفسه وعواطفه، فلا هو قادر على أن ينسى حبيبته، ولا قادر على أن يتقبل وضعها الجديد ويرضى أن يكون واحدا من المعجبين، فاهتدى إلى فكرة عجيبة يرويها تلميذه وصديقه الفنان صلاح طاهر فيقول:
"ذات مرة كنت مع الأستاذ العقاد في شقته، ودخلت غرفة لأتحدث في الهاتف، فناداني العقاد بلهفة: يا صلاح.. تعالَ لا تتصل الآن، ورجعت إليه فوجدت الدموع في عينيه، فأخبرني أنه ينتظر على أمل أن تتصل به محبوبته الممثلة التي قاطعها منذ أربعة شهور.
ووجدت مدى تأثره بفراقها رغم قدرته الخارقة على التحمل والكتمان وتناقشنا في كيفية نسيانها، واقترح عليّ أن أرسم لوحة فنية عبارة عن تورتة شهية جدا وقد تهافت عليها الذباب، وبالفعل أنجزت اللوحة  ووضعها العقاد على الحائط مقابل سرير نومه، وكلما استيقظ رأى اللوحة التي ساعدته على النسيان، وأذكر أنه في تلك الفترة كتب قصيدة "يوم الظنون" والتي يقول فيها:
وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي/ ما لان في صعب الحوادث مقودي
وهكذا قد استعان العقاد باللوحة الفنية حتى ينسى أكبر قصة حب عاصفة في حياته.

 

(الحلقة الاولى)