لقد أصبحت الساحة السياسية الجزائرية أشبه ما تكون بحلبة المصارعة حيث لا يمضي يوم واحد يخلو من تبادل اللكمات تحت الحزام بين رؤساء الأحزاب، وكذلك بين كبار المسؤولين في الأجهزة الرسمية للدولة، فضلا عن الاتهامات المشينة المختلفة التي تلصق بهذا الوزير في جهاز الحكومة أو بذاك المعارض سواء كان سياسيا أو رجل أعمال أو صاحب منبر إعلامي. ويلاحظ هنا أن دائرة الصراع المحتدم تتوسع باستمرار، حيث لا تقتصر على التجاذبات التقليدية بين المعارضة وبين أبناء النظام الحاكم، بل إن نارها تمتد إلى معاقل أجهزة السلطة نفسها الأمر الذي يعني أن الذي تشهده الجزائر ليس فعلا سياسيا وإنما هو فوضى عارمة تقدم صورة بشعة للواقع السياسي الجزائري.
في هذا الأسبوع شهدت الجزائر الكثير من التحركات ذات الطابع الإداري التنفيذي التي ليست لها شرعية دستورية أو برلمانية مثل إعلان الوزير الأول الجزائري، عبدالمالك سلال، أن حكومته قد اتخذت قرارا ستشرع بموجبه قريبا في تطهير قطاع الإعلام التابع للقطاع الخاص، وفي غلق ما يسمى بالقنوات التلفزيونية التابعة للقطاع الخاص والتي يدعوها بغير الشرعية وأكد أنه سيوقف بثَها عبر الأقمار الصناعية.
إن هذا القرار المتسرع غريب جدا لأنه لا يعقل أن تقوم الحكومة بإغلاق أي منبر إعلامي من دون مناقشة مسبقة ورسمية لهكذا قرار من طرف البرلمان ومجلس الأمة، باعتبارهما الجهتين الرسميتين اللتين تمتلكان صلاحية صياغة القوانين وكذلك الموافقة عليها أو رفضها، كما أنه لا يعقل الشروع في عملية تنفيذ القوانين من دون ترخيص المحكمة وفقا للدستور. ثم كيف يحق للحكومة أن تتهم هذه الوسائل الإعلامية بأنها تعمل في البلاد بطرق غير شرعية، في الوقت الذي يعرف القاصي والداني أنها هي التي سمحت لها، منذ نشأتها، بالاشتراك في الأقمار الصناعية الأجنبية وتحويل أموال الاشتراك بالعملة الصعبة إلى المؤسسات أو إلى الشركات المالكة لهذه الأقمار، وأنها هي التي تركتها تقوم بالعمل الصحافي اليومي بمكاتبها وعبر الوطن وأن تبث برامجها المختلفة بمقراتها المركزية بالجزائر العاصمة على مدى شهور بل سنوات من دون قيد أو شرط؟ ألا يعني كل هذا أن الدولة غائبة فعلا وأن أجهزتها التنفيذية تتعامى عما يحدث في البلاد؟ في الحقيقة إن النظام الجزائري هو الذي بارك في البداية هذه المنابر الإعلامية التابعة للقطاع الخاص وغض الطرف عن وجودها القانوني غير المرخص له، وهو الذي قدم لها الدعم المالي المتمثل في ريع الإشهار وحول أصحابها من إعلاميين أو شبه إعلاميين فقراء أو متوسطي الحال، إلى مليارديرات بين ليلة وضحاها.
إن القضية لا تكمن إذن في شرعية أو عدم شرعية عمل هذه الفضائية التلفزيونية أو تلك الجريدة اليومية التي يملكها هذا الشخص أو ذاك، وإنما القضية في جوهرها تتمثل في معاقبة أي منبر إعلامي خاص خارج عن طوق النظام الحاكم، وفي عدم قبول النظام الحاكم للنشاط الإعلامي التعددي ذي الطبيعة النقدية. إن مسلسل الفوضى السياسية لا يتوقف، ففي هذا الأسبوع أيضا صرح عمار سعداني، رئيس حزب جبهة التحرير الوطني، الذي يعتبر أكبر أحزاب النظام الحاكم في البلاد، لوسائل الإعلام الوطنية بأمور خطيرة جدا، إذ نقلت عنه جريدة النهار اليومية قوله بأن هناك “أخطبوطا يقوده الجنرال توفيق ويموله الملياردير أسعد ربراب والهدف هو اختراع رئيس جديد للجزائر”. علما أن الجنرال توفيق هو ابن النظام الحاكم وأحد أقطابه الكبار وأن تنحيته من منصبه ليست إلا زوبعة داخل فنجان النظام نفسه. ففي هذا التصريح بالذات حذر عمار سعداني الجزائريين بصريح العبارة، حيث قال إن ثمة أشخاصا سماهم “بعصابات الأشرار” يدبرون لهم المكائد في السر، علما أنه لم يسم أحدا باسمه الشخصي، كما أنه لم يوضح ما يعنيه بمصطلح العصابات الشريرة بشكل محدد ودقيق.
لا شك أن تحذير عمار سعداني للشعب الجزائري يدخل ضمن لعبة الصراع الشعبوي من أجل الاستحواذ على قاعدة الناخبين في حالة دخول الجزائر في الانتخابات الرئاسية المبكرة، وذلك إذا تجاوزت الوضعية الصحية للرئيس بوتفليقة الخط الأحمر بشكل مفاجئ. هذه الفوضى التي تعم الوسط السياسي الجزائري الراهن تمثل ترجمة للتصدعات الكبرى التي تنخر جسد جزائر مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث تم فيها التحطيم الممنهج لكافة مقومات الدولة العصرية وفي المقدمة تحقير الثقافة وتحويلها إلى مجرد فلكلور شعبوي، والإجهاز الدرامي على منظومة التعليم بكل أنواعـه ومستوياته (المهني والعلمي والفكـري والأخلاقي)، فضلا عن كسر الشريحة الوسطى وتعويضها باختراع مجموعة من الأغنياء التابعين للنظام الحاكم والذين أثروا على حساب الشعب وبطرق التحايل. تم كل هذا في ظل نهب عائدات النفط المقدرة بمبلغ 800 مليار دولار خلال 16 سنة من حكم الرئيس بوتفليقة. وهكذا فإن جميع الذين راهنوا على الجزائر أن تكون “يابان” العالم العربي قد أصيبوا فعلا بالخيبة، وأصبحوا يرونها تقبع في مؤخرة دول العالم الثالث الغارقة في وحول التخلف البنيوي وفي الأزمات المتتالية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والمؤسساتي.
ويبدو أن الذين راهنوا على مثل هذا الرهان كانوا عاطفيين وحالمين وبعيدين عن القراءة الصحيحة للثقافة التقليدية والمتخلفة التي تحكمت ولا تزال تتحكم في نسيج المجتمع الجزائري، وهي الثقافة التي أفرزت ولا تزال تفرز نظاما حاكما تحركه ذهنية التخلف، ولا يملك إرادة وطموح العظمة ونظرية الدولة الحديثة.