الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

مصطفى المنوزي: شخصية الجابري أو عندما يكون الصراع الفكري الاتحادي مهيكلا للرشد السياسي

مصطفى المنوزي: شخصية الجابري أو عندما يكون الصراع الفكري الاتحادي مهيكلا للرشد السياسي

من الطيب جدا أن يبادر الشبان من داخل أحزابهم للاحتفاء بفكر وسيرة الدكتور محمد عابد الجابري النضالية، بمناسبة ذكرى رحيله السادسة. هذا العلم الذي اختار الرياضيات محاكاة لفلاسفة الإغريق، جسرا لبلوغ حب الحكمة والمنطق، وبالموازاة، اعتبر وآمن، كما لينين، أن الصحافة موحد جماعي وصانع للحقيقة والتواصل، وتمخض عن كل هذا المسار رحلته من عالم السياسة إلى الفكر وليس العكس، ناضل خلالها ثقافيا واجتماعيا. وقد سرني برنامج في القناة العمومية الأولى، الذي توفق، في الجملة، في إبراز معالم طريقه التي هندسها بأظافره وبللها بدموع طفولته وشبابه وكذا معاناته تجاه التحريفية والانتهازية أينما كانت. غير أن ما خفي في الحلقة الخاصة به، كان عظيما، فهو لم يصغ فقط، تقنيا ولغويا، التقرير الايديولوجي، كما عبر عنه أحد المدراء السابقين لجريدة الحزب، بل إنه سوغ التوثيقة بعد تحليل عميق للتشكيلة الاجتماعية والاقتصادية، وشخص تشخيصا دقيقا طبيعة النظام السياسي المغربي، وتوصل، بتعاون وتواصل وتشاور مع عمر بنجلون وأحمد الحليمي، إلى خلاصات مهمة جدا، منها ضرورة تبني الوضوح الايديولوجي والقطع مع كل الازدواجيات، وصولا إلى أهمية القطيعة مع ماضي الحكم الفردي المطلق، بدمقرطة الدولة والمجتمع معا.. وما مطلب الملكية البرلمانية إلا إحدى المستنتجات التي تبلورت لاحقا ضمن أدبيات المؤتمر الوطني الثالث للاتحاد الاشتراكي.

هو فعلا حارب البلانكية كوجه من وجوه سلوك الانتهازية اليمينية ومعه الوجه الثاني للمغامرة السياسية والتجريبية والانتظارية، لكن في نفس الآن ناضل من أجل التخلي عن أمراض الطفولية اليسارية، وقد لعب دورا أساسيا في محاولة للتوفيق بين أجنحة الحزب المتصارعة سياسيا، وكان حريصا على شجب كل الممارسات التحريفية للخط، والتي قادها تيار النزعة الانتخابوية الضيقة، الذي هرب البيان السياسي العام للمؤتمر الوطني الثالث وحرف مسار الاشتراكية العلمية اقترانا مع التخلي عن البعد الاجتماعي في الهوية الاتحادية. وكان الثمن أن حورب مجبرا على الاستقالة من المسؤولية القيادية، إثر فشله في الترافع من أجل إرجاع المطرودين من الحزب، الذين أغلبهم من مؤسسي الشبيبة الاتحادية ومن مؤطري الصراع الايديولوجي والسياسي على رأس جناح يسار الاتحاد، وبعد اكتشافه بأن قيادة الحزب تراجعت عن الطرد، في المرة الأولى، فقط ليتم إشراكهم في انتفاضة عشرين جوان، وقودا وحطبا، بدليل ما جرى من اعتقالات في الصفوف الاتحادية، وأغلبهم من الجناح نفسه، وكانت الضربة التي قسمت ظهر البعير، هي اعتقالات الفقيه بنصالح وبني ملال، بناء على شكاية من أحد أعضاء المكتب السياسي آنذاك.

وبالتالي لم يكن الأمر يتعلق، فقط، بصراع أفقي، بين المكتب السياسي وما سماه الإعلام الأمني بمجموعة بنعمرور ومن معه، وانما صراع عمودي وعرضاني، توج بما سمي «أحداث ثامن ماي»، التي استعمل فيها العمال المنخرطون في الكدش، وللأسف تجاهل البرنامج هذه المحطات التي كانت بالنسبة لعابد الجابري صدمة مهيكلة لمساره الفكري اللاحق، ومنتجة لكل زاده المعرفي الفائض والخالد.

فهو في آخر المطاف استقل تنظيميا من الحركة الاتحادية، ولكن ظل وفيا لتراثها الفكري والبشري من خلال حرصه الدائم على مواجهة النزعة التقليدانية في الحكم وأصوليات عبر البحث عن امكانية تجريب أدبيات الكتلة التاريخية، والتي وعى جيدا أنه بدون أداة حزبية ديموقراطية لا يمكن بتاتا تحقيق مكتسبات انتخابية، وبالأحرى تمثل استراتيجية النضال الشامل الديموقراطية.