الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

بلال الصـبّاح:موازين الرياض وطهران على رقعة الشطرنج الإفريقية

بلال الصـبّاح:موازين الرياض وطهران على رقعة الشطرنج الإفريقية

حرصت جنوب إفريقيا على أن تكون عاصمتها السياسية بريتوريا بمثابة البوابة الآمنة للقارة الإفريقية وفق ما تقره القوانين الدولية لحفظ الأمن والسلم العالميين، ومع ذلك لم يكن خفياً على المجتمع الدولي بأن الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا كان صريحاً في مواقفه الداعمة لبعض القوى اليسارية في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث نالت إيران الحظ الأوفر من حضانة أفارقة الجنوب، بل أصبحت طهران جزءاً لا يتجزأ من رؤية جنوب إفريقيا.

ولكن ثمة مُتغيرات مُتسارعة وغير مُتوقعة حدثت على الساحتين الإفريقية والعربية، فما إن بدأ عام (2016) انطلاقته السياسية، كانت المُفاجأة بأن رئيس جنوب إفريقيا أعلن تأجيل زيارته الأولى لطهران لتكون بعد زيارته الأولى للرياض.

والسؤال .. ما هي الأحداث التي وقعت على الساحتين الإفريقية والعربية، والتي كانت سبباً في تقدم جنوب إفريقيا خطوة نحو السعودية؟، وما قبل ذلك علينا أن نوضح رؤية الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا وطموحه نحو إفريقيا والشرق الأوسط، ثم كيف تراجعت عن إيران خطوة نحو الوراء؟.

لا شك أن العلاقات بين السعودية وجنوب إفريقيا انتقلت من مرحلة الجمود إلى مرحلة التفاعل الإيجابي على كافة المستويات، ولا يصح القول بأن الصفقات الضخمة المُبرمة بين الطرفين كانت سبباً في ذلك، فالرياض وبريتوريا لا يتفاوضان على المال بقدر ما هو الإلتقاء عند النقطة المُشتركة بين الأمن القومي العربي والإفريقي ومدى التوافق عليها.

فقد أخذت جنوب إفريقيا على عاتقها رؤية صعبة ومُعقدة بعض الشيء بعد نهاية حقبة الفصل العنصري، وهي الوصول إلى مجلس الأمن الدولي بالمقعد الدائم لتمثيل إفريقيا والشرق الأوسط أمام المجتمع الدولي، ولن يكون ذلك إلا بعد ضم ودمج كل من إيران وإسرائيل كجزء من الشرق الأوسط وإفريقيا.

وحققت جنوب إفريقيا تقدماً ملموساً على طريق رؤيتها، فكان تحالفها مع إيران إستراتيجياً حتى أصبحت ذراعها الأيمن في الشرق الأوسط كقوة يسارية ضاربة، والقذافي الذي تكفل بتمويل مشاريع جنوب إفريقيا على مستوى القارة الإفريقية بما يروق لجنوب إفريقيا، كما أوجعت المغرب بإستضافتها لحركة البوليساريو الإنفصالية، وكان آخر ما حققته هو دعم فصل جنوب السودان عن الخرطوم، وتوجيه دعوة للفلسطينيين والإسرائيليين بإستبدال طاولة المفاوضات الأمريكية بالطاولة الجنوب إفريقية لتحقيق السلام بينهما برعاية بريتوريا وليس واشنطن.

ولكن مع المُتغيرات المُتسارعة وغير المُتوقعة على الساحتين الإفريقية والعربية، والتي بدأت شرارتها بسقوط الحكم في تونس ومصر، حيث يمكن القول بأن الرياح لم تجر بما تشتهيه جنوب إفريقيا، حيث تساقطت الكثير من مقومات رؤيتها على الساحتين العربية والإفريقية، ويُمكن تلخيصها على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: سقوط الرئيس القذافي، حيث كانت ليبيا تستعد لتمويل حُلم جنوب إفريقيا بتشكيل (القوات الإفريقية المشتركة) من أجل فرض الأمن على مستوى القارة الإفريقية، وتثبيت أنظمة الحكم الموالية للثورية اليسارية.

المرحلة الثانية: إختراق مُفاجئ للأمريكان نحو القارة الإفريقية من خلال الوسط الإفريقي، حيث دعت واشنطن إلى تشكيل وتدريب (قوات التدخل السريع)، وأن لكل دولة قوات خاصة مُدربة أمريكياً على فض النزاعات الخاصة بالدولة نفسها دون التدخل في شؤون الآخرين، ولتكون بديلاً عن (القوات الإفريقية المشتركة) التي تسعى جنوب إفريقيا لتشكيلها. واعتمدت أمريكا على كل من (اثيوبيا ونيجيريا وكينيا)، على أن تبقى فرنسا في (تشاد والسنغال) وبعض الدول الصغيرة.

ولمواجهة أخطار وسلبيات المرحلتين الأولى والثانية، سارعت جنوب إفريقيا للتحالف مع السودان العربي كبديل عن ليبيا، حيث موقعه الجغرافي حساس وقريب من مصر وتشاد وجنوب السودان، عدا عن وقوعه على خط الوسط الافريقي.

كمادعت جنوب إفريقيا القطاع الخاص في إفريقيا للمُشاركة في تمويل نشاطات الإتحاد الإفريقي، وذلك لمواجهة التمويل الأمريكي، خاصة في الوسط الإفريقي، وسارعت بالإنضمام لبنك التنمية الجديد التابع لمجموعة بريكس، من أجل تحصين إقتصادها المحلي قبل التوجه نحو تمويل الوسط الإفريقي.

ومن أجل تحقيق التوازن بين القادة الأفارقة تمكنت جنوب إفريقيا أيضاً من توحيد كلمة الأفارقة في قمة (بريتوريا 2015) من خلال ربط الحرب على الإرهاب برفض قوانين الجنائية الدولية وتحكيمها، وهي رسالة واضحة بأن الأفارقة متوافقون مع مجموعة بريكس حول ضرورة إعادة النظر في مفاهيم المجتمع الدولي وقراراته غير المُحايدة.

 المرحلة الثالثة: إنضمام بعض الدول الإفريقية لعاصفة الحزم العربية وخوضها حرباً في اليمن، ثم إلتزامها بالتحالف العسكري الإسلامي الذي تقوده السعودية، حيث استطاعت السعودية تحقيق توازن سياسي وعسكري في الوسط الإفريقي من خلال توحيد الرؤى السياسية لمجموعة من الدول الواقعة في الوسط الإفريقي، فيما يتعلق بأن الإرهاب مصدره الأكبر هو إيران، مما فتح آفاقاً كبيرة للتعاون فيما بينهم في التنسيق الأمني على مستوى الوسط الإفريقي، ولهذه الخطوة كان مجموعة من النتائج الكبيرة والمؤثرة على مستقبل الخارطة الإفريقية.

فعلى مستوى الداخل الإفريقي: قطع السودان علاقاته مع إيران يعني أنه اقترب من ثاني أكبر قوة إفريقية وهي نيجيريا، ومشاركة تشاد التحالف العسكري الإسلامي يعني أنه لن يتدخل في شؤون دارفور السودانية، كما أن السودان وتشاد ونيجيريا يشكلون الحزام الفاصل والقاطع بين الشمال الإفريقي والجنوب الإفريقي.

وخروج موريتانيا من الدائرة الإيرانية وإنضمام السنغال للتحالف العسكري الإسلامي سوف يكون له آثاراً إيجابية على قضية الصحراء المغربية، كما أن الصومال وجزر القمر وجيبوتي خط جديد رسمه التحالف العسكري الإسلامي.

وعلى مستوى الخارج الإفريقي: فقد كان إعتماد واشنطن على إثيوبيا ونيجيريا في مكافحة الإرهاب على المستوى الإفريقي، ومع إنشغال نيجيريا بالتحالف العسكري الإسلامي أصبح الثقل الإمريكي على إثيوبيا، وهي غير قادرة بحكم موقعها الجغرافي بين مجموعة من الدول الإسلامية المُعادية لأديس آبابا. كما أن إندماج تشاد بالتحالف العسكري الإسلامي هو بمثابة خروج فرنسا من دائرة الحرب على الإرهاب في الوسط الإفريقي، بل من القارة الإفريقية.

وبذلك يُمكن القول بأن رؤية جنوب إفريقيا كانت قائمة على ثلاثة جوانب، والتي بدأت بظهور القوة الإيرانية في الشرق الأوسط، ثم تشكيل قوات إفريقية مُشتركة لضبط أمن إفريقيا تحت إدارة عاصمتها بريتوريا، ولتنتهي بإستضافة المُفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، قبل الإنطلاق لمجلس الأمن الدولي بالمقعد الدائم.

وللإجابة على سؤال التقرير حول تأثير الأحداث التي وقعت على الساحتين الإفريقية والعربية والتي كانت سبباً في تقدم جنوب إفريقيا خطوة نحو السعودية، وتراجعها عن إيران خطوة نحو الوراء يرجع إلى التقهقر الذي لحق بإيران في اليمن وسوريا ولبنان بعد عاصفة الحزم العربية، غير ملاحقة إيران في الوسط الإفريقي بعد إنضمام بعض أفارقة الوسط للتحالف العسكري الإسلامي، بل حتى الأوراق الأمريكية والفرنسية تبعثرت في مشروع حربهما على الإرهاب في إفريقيا.

كما أدركت بريتوريا بأن إسرائيل أيضاً لم تعد بحاجة إلى طاولة المفاوضات الجنوب إفريقية بعد توحد القوى الإقليمية القادرة على خوض حروب شرسة في المنطقة إلى جنب السعودية، كالإمارات وتركيا ومصر والأردن والمغرب والسودان.

وقد يكون السبب الرئيسي الذي جعل جنوب إفريقيا تتقدم خطوة نحو السعودية هو أن التحالف العسكري الإسلامي هو الأول من نوعه على مستوى القارة الإفريقية، والذي عمل على توحيد مجموعة من الجيوش النظامية الإفريقية على أسس عقائدية وإسلامية دون أن يُخالف القوانين الدولية، وهذا ما تخشاه جنوب إفريقيا للكثير من الأسباب، وأكتفي بقول أن جنوب إفريقيا غير قادرة على إدارة هذا النوع من التحالفات أو مواجهته سياسيا وعسكرياً.

كما أن السعودية نجحت في مزاحمة البعدين العسكريين في إفريقيا، فالبعد الأول قائم على الوعود الأمريكية الفرنسية بتشكيل (قوات التدخل السريع)، والبعد الثاني قائم على محاولات جنوب إفريقيا لتشكيل (القوات الإفريقية المشتركة)، وذلك من خلال إيجاد البعد العسكري الثالث وهو التحالف العسكري الإسلامي على أرض الواقع وخروج بعض الدول الإفريقية من قائمة الإنتظار ما بين الوعود الأمريكية الفرنسية وبين المحاولات الجنوب إفريقية.

وخلاصة القول؛ وهو ما يجب أن تُدركه السعودية بأن إيران لم تخرج قطعاً من إفريقيا، وأن علاقتها مع جنوب إفريقيا لن تنخفض بما يتوقع البعض، وأن ما حدث في الآونة الأخيرة هو كر وفر إيراني في لعبتها على رقعة الشطرنج الإفريقية، وأن هذه الرقعة فيها اللونين الأبيض والأسود، بمعنى أن الاوروبيين والأمريكان جزء منها حسب التركيبة الديموغرافية التى جمعت كافة الأعراق والأديان على رقعتها.

ومن أجل أن تُحافظ المملكة العربية السعودية على خطوتها التقدمية مع جنوب إفريقيا، وتجعل منها خطوات ودرجات، هو أن تتفهم الرياض رؤية وطموح جنوب إفريقيا في أن وصولها إلى مجلس الأمن الدولي بالمقعد الدائم ليس من صنيعة أفارقة الجنوب بقدر ما هو رؤية عالمية لتكون جنوب إفريقيا ممثلاً لإفريقيا والشرق الأوسط أمام المجتمع الدولي، بحكم موقعها الجغرافي والإقتصادي والحقوقي، حيث وجدنا أن التصريحات الصادرة من واشنطن ولندن وباريس كانت تؤيد جنوب إفريقيا في مطالبتها للمقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي، وهذا ما قلته منذ سنوات بأن جنوب إفريقيا هي "الفتى المُدلل" لقوى الشرق والغرب، حيث الجميع يؤيد رؤيتها في تمثيل إفريقيا والشرق الأوسط في مجلس الأمن الدائم، ولكن الخلاف حول الوسائل المؤدية لذلك.

فلا بأس أن تلتقى العاصمة الرياض مع بريتوريا عند هذه النقطة المُشتركة بين الأمن القومي العربي والإفريقي والتوافق عليها، والإنطلاق معاً نحو المجتمع الدولي بما ترغبه جنوب إفريقيا، وبما لا يتعارض مع مقررات التحالف العسكري الإسلامي، والذي يجب أن يكون جزءاً من الأمن القومي الإفريقي في مقابل أن يكون تمثيل جنوب إفريقيا للمنطقتين جزء من الإستراتيجية العربية والإسلامية.