حتى لا نكذب على أنفسنا، حتى نستجيب لهمسات "الهو" الجزء المظلم من أجزاء النفس الثلاثة - حسب فرويد - (الأنا والأنا الأعلى والهو)، هذا "الهو" الذي يبغي اللذة بشكل غريزي، ولا يقبل الألم، لأنه لا شعوري كليا، ففي اللاشعور تظهر حقيقة الأنا وتظهر ما تضمر. أغلبنا إن لم نقل كلنا، لا يقبل الانتظار في الطوابير، ويرى نفسه أحق بالتفضيل عن الآخرين ولو في فترة محدودة في عمرنا داخل هذا أو ذاك الزمن.
في طوابير الصفوف بالجماعة التي حولوها لمقاطعة، وعموما بكل مصالح الإدارة العمومية، التي لا تقبل النظام والترتيب بشكل جذري، ولا تستطيع نزع ثوب البيروقراطية الذي أصبح لصيقا بها، كما يلتصق الجلد بعظام وأعصاب بني البشر، عشنا ونحن يافعين وحتى عندما كبرنا، لحظات قاتلة من الانتظار في طوابير "أمولا نوبة"، يزيد حرقتها قفز فلان أو فلانة فوق رؤوسنا، وقضاءه لأغراضه بطريقة مريحة بعيدا عن : من صاحب الدور؟.. وخبرنا منذ زمن أن "صاحب الصرف" لا ينضبط غالبا لأدبيات "الصف" ولا ينبطح أمام الإدارة ولا يقول "الله يرحم ليك الوالدين.. الله يطول ليك عمرك"، بل تكفيه عبارة "عافاك" أو s’il vous plait، بلسان فرنسي لشخصية أفطرت فطورا راقيا، قبل المجيء على متن السيارة الرباعية الدفع، لدفع طلب الحصول "الآني" على الوثائق الإدارية. أصحاب فطور "الخبز والشاي" يحضرون للمصلحة قبل فتح الأبواب، وبعد فتحها ينتظرون الموظفين، إلى حين تناولهم للفطور بالمقهى أو المكتب "على راحتهم"، ونظراتهم صوب الممنوعين من الصرف تخفي عبارات "جيتو تاني" ولسانهم يقصف بصواريخ : "باقي مابديناش" "سير تا العشية".. "جيب هادي زيد هادي"، وحينها ترسل أفواهنا مضادات ناعمة لهذه الصواريخ : "عارفينكم معدبين الله يحسن عوان عوانكم" ونقولها حتى للعون النائم فوق الكرسي، كما نغني ونرقص بعبارات بلحن استجداء على مقام الصابا : "الله يرحم ليك لي ميَّتْ ليك .. الله يخلي ليك وليداتك". نشكر كل من قدم لنا خدمة تدخل ضمن واجبه المهني، ليس كتصرف حضاري، بل كثناء بعد أن يقهرنا العناء من عدم قيام الموظف بشكل مضبوط، بواجبه الذي يحصل من خلاله على راتب شهري.
تحضرني حكاية وقعت لي في مقاطعة بيضاوية، كان الموظف يتعمد خلخلت نظام الصف، لكي يحصل على الصرف، طلبت منه أن يحترم طابور تسليم شهادة الازدياد، فأجابني بغلظة وبصوت خشن، أصابني بالفزع، تسللت لمكتب "رئيس القسم" وجدت القسم ولم أجد الرئيس، رجعت للصف، تنكر لي الممنوعون من الصرف، ولاحظت أن ممنوعا آخر من الصف، قد حضر للتو وسلمت له وثيقة في الحين، عاتبت الموظف مرة ثانية عن تصرفه، فقال لي : (جاء قبل مجيئك وضع الطلب وانصرف ثم عاد) وفي غياب آلية "النفولة" أي (أرقام ترتيب الدور في ورقة كارطون صغيرة) أو شباك تذاكر الدور، وجدت أناي بين نظرات حادة من الممنوع من الصف ونظرات تعاطف مكبوسة الأحاسيس من الممنوعين من الصرف، خاطبت المحظوظ : ليس بيني وبينك مشكل، أنا أتحدث مع الموظف.. فرد علي : احترم الموظف فهو في سن أبيك.. "ضسرتو".. لم أبادر بالرد ليس خوفا منه ولكن خوفا مني ومنهم كلهم. لم أجبه لأني كنت في حاجة للوثيقة، لم أرغب أن أدخل معه في نزاع، يمكن أن أجد نفسي فيه غير مؤازر من الممنوعين من الصرف، الذين ما إن شب النقاش الخفيف، حتى تكتلوا كقطع البطاطس في عربة البائع المتجول، وتزاحموا وتراحموا في الصف، لتأمين دورهم وهذا من حقهم، ولم أفكر في إرغامهم على الاهتمام بي ومساندتي لأني أعلم أنهم مثلي ممنوعين من الصرف، لم يحركهم ما يروج من تصرفات من الموظف، يفور معها الدم ويغلي معها الكوليستيرول رغم أني لم أكن أعلم حينها أن ذاتنا بها، شيئ اسمه "الكوليستيرول" بل كنت أعرف حينها فقط "الزعف والقردة وكنت أسمع أنهم يصعدون للرأس في مثل هذه المواقف"، لكن بالمقابل كنت على دراية تامة بأن المطالبة بتقويم مثل هذه السلوكات سيأتي معها الندم لذلك نستسلم لطلوع الدم. انصرف الممنوع من الصف، ولم أتمالك نفسي. صحت في وجه الموظف وأخبرته أن دوري قبل الممنوعين من الصرف والممنوع من الصف الذي غادر، أيقن الموظف أنه قد تجاوز حدوده وأني سوف أصعد معه الخطاب، فطلب مني أن مده بدفتر الحالة المدنية، قلت له أربع نسخ من رسم الولادة خاصة بي شخصيا، رغم أني في نظره لست بـ "شخصية". رددتُ أمامه اسمي الشخصي، قلَّبَ الصفحات، ثم أنجز المطلوب بسرعة تفوق الكومبيوتر، وتسلم ثمن "التنابر" وسلمني الدفتر واضعا وسط صفحاته الوثائق. انصرفت من شباك المقاطعة وقبل أن أغادر موقعها على متن الطوبيس، الذي سيسافر بي كيلومترات طويلة، في الشارع المحاذي قررت أن "أراجع أوراقي"، قرأت ما كتبته أصابعه في وثائقي الإدارية بخط رديء وعصبية، فوجدت أنه أنجز وثائق باسم أخي وليس اسمي، تحرك "الهو" داخل نفسي، وقلت : خطير ما فعله الموظف، لعله أراد أن يرد لي الصاع صاعين. رجعت وأخبرته بلطف أن الوثائق التي سلمها لي ليست لي بل لأخي، فأجابني بطريقة أحسست معها أنه يستبدلني وقد يكون بريء من ذلك : وفين كاين الموشكيل؟.. أجبته : "كون مشيت بلا ماراجعت لوراق، غادي نبقا حتى الاثنين اليوم الجمعة وقربتو تسدو.. واليوم آخر أجل باش ندفع هاد لوراق". نظر إلي نظرة حادة وقال لي : (كاتبقاو تال النهار اللخر وتجيو.. لماذا لم تخبرني قبل أن أنجزهما؟ أنت الآن تساهم في عرقلة الصف والنظام بعدم انتباهك).. أجبته : بل رددت أمامك الاسم ثلاث مرات وما حدث هو نتيجة عدم اهتمامك أنت بطلبي، أنكر ذلك وامتص الريق وحرك رأسه بين كتفيه بعصبية يمينا وشمالا ومرَّرَ يديه فوق المكتب، مُجريا مسحا طبوغرافيا لأبعاده المستطيلة، وبدا وكأنه سيرمي بمكتبه أو حاملة الأختام في وجهي. التفتُ للمنوعين من الصرف، فكانوا أيضا ممنوعين من المبادرة بتأييد كلامي، أنجز الموظف "الطيب .. القبيح" الوثائق ثانية، وسلمته مبلغ "التنبر" مرة أخرى، راجعت أوراقي وانصرفت أنا "الممنوع من الصرف".
في سنوات فارطة قبل الإنترنت وحرية التعبير الممنوحة بيد والمسلوبة بيد أخرى، أصبحنا نسلم بهذا التمييز غير المقبول، فتسمع من يقفون بجانبك، بعد عتابك الخافت لخلل مقصود بطابور الصف.. واش عرفتي شكون هداك؟ واش عرفتي شكون هاديك؟... فتتسرب إلى نفسك المكلومة خيالات وظنون تتلخص في : عنداك يكون جنرال أو باه ولا باها جنرال.. أو بورجوازي "بوكو فلوس" يمكن أن يرميك في السجن بتهمة سيتم طرزها بعناية، وقد تتخيل أن المخل بالصف سيصفعك أمام الممنوعين من الصرف "الشادين للصف".. وتواجه بعد اللكمات كلمات من قبيل : مالك على حالتك؟ ملي نتا ممنوع من الصرف خلي الممنوع من الصف يسبقك.. آش قضيتي دابا؟ هانتا جبتيها فراسك...