بلغة كرة القدم، انتصرت الرجاء البيضاوي بإصابتين لواحد أمام فريق شباب الريف الحسيمي، لكن بلغة الدم، انهزمت بحصة بشرية ثقيلة، بلغت مؤقتا قتيلان والعشرات من المصابين بشكل متفاوت الخطورة..
قد تكون الأقدار هي التي جعلت من شهر مارس من كل سنة، يحتفل فيه أنصار الرجاء البيضاوي بذكرى تأسيس فريقهم الأخضر، تزامنا مع مارس الربيع، فالأمر له دلالته من حيث خضرة الفريق وبداية خضرة شهر مارس، لكن ذكرى مرور 67 سنة ستظل ذكرى سوداء قاتمة في تاريخ "النسر الأخضر"..
بدا قلب عبد الحق منشطرا بين ابنيه عبد اللطيف وياسر، لم يتجاوزا 18 من عمرهما، الأول في حالة غيبوبة تامة.. عيناه منتفختان، مستلقى على سرير طبي، فيما الثاني، يتحدث بصعوبة والدماء تسيل من جبهته، متكئا على كرسي متحرك، كل واحد له ملف طبي خاص به، وحالتهما الطبية متوسطة الخطورة، حسب التقرير الأولي.. "كنت في البيت لما تلقيت مكالمة من أحد أصدقائهما، أنهما أصيبا بعد انتهاء مقابلة الرجاء هذه الليلة (السبت 19 مارس الجاري)، وبأنهما في مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء"، يقول عبد الحق في لقاء مع "أنفاس بريس".. يتحدث عبد الحق بلسانه لكن عينيه لا تفارقان ابنيه، كل واحد منهما يرتدي قميص الفريق الأخضر ببقع كثيرة حمراء من أثر الدم، سمرة لون المراهقين، تحولت بفعل الأحداث التي عرفها ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء إلى لون شاحب لبشرتهما، حيث تظهر آثار الكدمات والركل والرفس على وجهيهما..
"كنا في غمرة الاحتفالات بعيد ميلاد الرجاء، لما اندلعت المواجهات بين فصيلين مشجعين للرجاء، هما "إلترا غرين بويز" و"الإلترا إيغلز"، تحولت معها "المكانة"، إلى ساحة حرب"، يقول أحد المصابين بكسر على مستوى كتفه الأيمن، يضيف وهو يقف ينتظر دوره في تلقي العلاجات، يحمل بين يديه قنينة "سيروم"، "حاولت الفرار رفقة أحد الأصدقاء، لكن الازدحام كان شديدا، فسقطت غير ما مرة تحت الأرجل، ولم أسترجع وعيي إلا هنا بالمستشفى".
أمام قسم المستعجلات بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء، كانت سيارات الإسعاف تصل مسرعة مطلقة منبهاتها الصوتية، محولة سكون ليلة أمس إلى حالة استنفار أمني وطبي بمحيط المستشفى وداخلها.. أمهات وأخوات يسألن عن أقربائهن، "واش شفتي فلان؟ واش كان معاكم فلان؟".. أسئلة كثيرة وأصوات مرتفعة، بكاء ونحيب، إغماء واحتجاج، ولطم على الخدود والأفخاذ.. "واعباد الله ولدي قتلوه لي في الكرة، واعباد الله ردو لي ولدي.."، تصيح إحداهن بأعلى صوتها، تندب حظها، لا توقفها التماسات الزوار والمرضى الآخرين، لا أحد يملك لها إجابات توقف بها نحيبها، وبصعوبة بالغة تحاول إحدى قريباتها تهدئتها، بالقول إن أحدهم شاهد ابنها، وهو بإحدى سيارات الإسعاف يتلقى العلاجات الأولية، وأنه حي يرزق، "جيبو لي ولدي، والله ينعل بو الكرة ومواليها"، تعيد الصراخ..
"وجدنا صعوبة بالغة في معرفة هويات المصابين في حالة خطر، والمغمى عليهم"، يقول الدكتور قبلي، مدير مستشفى ابن رشد، في لقاء مع "أنفاس بريس"، مضيفا أن "هوية المراهقين الذين لقيا حتفهما في الملعب، ضمن مجهولي الهوية، ويتراوح عمرهما بين 15 و16 سنة، حيث تظهر على رأسيهما آثار التراشق بآلات حادة"..
أمام المدخل الرئيسي لقسم المستعجلات، ضربت حراسة أمنية بمساعدة الأمن الخاص، للسيطرة على الوضع، لكن دون جدوى، فالأمواج البشرية كانت أقوى من بضع حراس، تم تعزيز الحراسة بعناصر أخرى، ومع ذلك بدا الاضطراب هو سيد الموقف، فبمجرد سماع خبر تلك الأحداث، وسقوط قتلى وجرحى، قدم العشرات من الأسر للمستشفى يسألون عن مصير أبنائهم الذين لم يعودوا لمنازلهم بعد نهاية المقابلة والاحتفالات..
داخل قسم المستعجلات، كان الوضع أكثر خروجا عن السيطرة، اختلط رجال الأمن بزيهم الرسمي والمدني، مع الأطباء والمصابين وأقربائهم.. كل كراسي الانتظار كانت مليئة وزيادة بشبان لا تتجاوز أعمارهم 20 سنة، بل منهم من يبلغ 12 سنة، كل ينتظر دوره في الكشف عن حالته، وجل الإصابات كانت على مستوى الرأس، انتقلت معها دماء المصابين من وجوههم إلى بقع على الأرض، والحائط، قاعات الإنعاش، ضاقت عن استقبالهم، وكان لهذه الأحداث بمثل هذا الحجم، عنصر المفاجأة لدى الأطقم الطبية، وكذا على مستوى التجهيزات والأدوات.. "بزز باش لقينا الخيط"، تقول إحدى الممرضات التي كانت تسرع الخطى نحو قاعة للعمليات الجراحية، قادمة من مستشفى الأطفال الهاروشي، ورغم أنها سارعت بإغلاق باب قاعة العمليات فإن نظرة خاطفة للداخل تبين أننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن ما يعرف بطب الكوارث، بلغت حد تلقي مصابين للعلاجات على الكراسي في قاعات الانتظار، ورغم تأكيد مدير المستشفى على جاهزية الأطباء والممرضين لتغطية هذه الإصابات، فإن النقص كان ظاهر للعيان مما يدل على عنصر المفاجأة..
لم تكن الكسور والكدمات هي حصيلة الحرب الأهلية بين "إلترات" الرجاء، بل الحروق أيضا، على الوجه والأطراف، حالات كانت بدورها ضمن المصابين، والسبب هو التراشق بالشهب النارية بين المتصارعين (أنظر الفيديو، ضمن الموقع)، ورغم أنها حروق بسيطة، لكنها تركت آثارا على مستوى وجوه وأطراف المصابين، كما لم تنحصر الإصابات على جمهور الرجاء، بل امتدت لتشمل عناصر الأمن الذين حاولوا فك الاشتباكات بين الرجاويين، سواء داخل أو خارج الملعب..
مرت ثلاث ساعات على هذه الأحداث، وعلى رأس كل ساعة تبرز البشاعة التي ارتدت لبوسا رياضيا أخضر، مصابون في الداخل ونحيب وبكاء وإغماء في الخارج، فوضى عمت قسم المستعجلات، ليعلن في الواحدة من الصباح عن حالة ثانية من الوفاة، شاب في العشرينيات من عمره، لم تنفع كل المحاولات لإنقاذه، علا الأسى والحزن الفريق الطبي الذي كان يحاول بكل ما أوتي من جهد لإنقاذه، لكن أثر الجرح العميق على مستوى رأسه، قد يكون هو السبب في وفاته، لم يكن برفقته أحد، تم إخراجه من الباب الخلفي لقسم المستعجلات، مسجلا تحت اسم "إكس بن إكس"، في انتظار أن تجرى له عملية الكشف لبصماته للتعرف على هويته، فقد كان وجهه وخصوصا عيناه منتفختان، يصعب التعرف عليه من أول لحظة، ويعلم الله وحده كيف سينزل خبر مصرعه على أسرته..
هم حسب الرواية الرسمية أزيد من 50 مصابا، وزعوا على أقسام المستعجلات بمستشفيات ابن رشد ومولاي يوسف وبوافي، أكثر من ثلث العدد المصرح، في حالة خطيرة فيما تم الإعلان الرسمي عن حالتي وفاة، مع ما رافق هذه الأحداث التي فتح حولها تحقيق قضائي، من خراب ودمار للممتلكات العامة والخاصة..
هم عشرات الشبان، بعضهم حسب مصادر طبية، كان تحت تأثير التعاطي للمخدرات الصلبة، وبقدر ما هيجت هذه المخدرات بعضهم في تحولهم لأشبه بوحوش ضارية، ترمي غيرها بالحجارة والقضبان الحديدية والشهب النارية، بقدر ما حولت البعض الآخر لضحايا فاقدين للحركة بفعل تعاطيهم لهذه المهلوسات..
في حدود الساعة الثالثة من الصباح، بدأ الضغط يخف في محيط وداخل المستشفى، مع بدء معرفة هويات من سجلوا مجهولين، واطمئنان أسرهم عليهم.. ليلة ستبقى خالدة في ذهن الرجاويين وعموم الرياضيين والمسؤولين، وزع فيها شبان مراهقون، بين المستشفى والكوميساريات ومستودعات الأموات بمقبرة الرحمة بالدار البيضاء.