"ليس عمل الفكر هو أن ندين الشر الذي قد يسكن كل ما هو موجود، بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل كل ما هو راسخ موضوع إشكال" (ميشال فوكو).
حضرتني مقولة ميشال فوكو وأنا بصدد التفاعل مع مواقف مجموعة من شباب جهة مراكش المكافحة، وهم يدافعون عن حركة عشرين فبراير ويبررون سبب الفتور، بنفس القوة التي كان كل واحد منهم يدافع عن العصر الذهبي لليسار المغربي، وعلى الخصوص الانتفاضات المتوالية للشباب، سواء داخل المقرات الحزبية والمراكز الشبابية والديناميات الطلابية والتلاميذية في رحاب الجامعات وردهات المحاكم والمعتقلات السرية والعلنية، أو سواء في الشوارع والجبال والقرى كفضاءات عمومية ممتدة لقلاع رفع الخوف. وقد استمتعت بسجال فكري جميل بين هؤلاء الشبان وبين بعض رواد الحركة الوطنية، وأيضا بعض "كهول" الحركة الديموقراطية، وأغلبهم من ضحايا سنوات الرصاص. وكان هاجس الاستمرارية والصمود حاضرا ضمن مطلب ثنائية النفس الثوري الشبابي في تماه مع مطلب استمرارية وتأهيل عملية جبر الضرر المترددة والمرتبكة، وكمؤشر صريح على تكرار ما جرى من تعسف وتنكيل، الشيء يدعو ويستدعي كل القوى الحية والدمقراطية إلى ضرورة العمل على مأسسة جبر الضرر بتسطير قوانين تشرعن لكرامته واستدامته، باعتبار أن ضمانات عدم التكرار مطلب مجتمعي يتجاوز المصالح الشخصية للضحايا.
اقتنع الحضور بأنه لا يكفي تكرار لازمة الاستعداد والتعبير عن فورة الحماس دون الوعي بالتحولات التي جرت في جسد اليسار التقدمي، الذي أنهكه القمع المادي والمعنوي، وعلى الخصوص إثر ضياع البوصلة مع سقوط جدار برلين وصنم القومية ببغداد.. وقد كان آخر نفس ثوري في الزمن الاجتماعي، مقتضيات المؤتمر الوطني الخامس للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لسنة 1989، والذي حاول تحصين ورد الاعتبار للبعد الاجتماعي للهوية الحزبية.. وقد تزامن مع الإعلان الإمبريالي لتوافق واشنطن في نفس السنة، وعلى إثر التسوية التي تمت في القيادة الاتحادية، بعودة مهندسي المؤتمر الرابع إلى مراكز القرار، والذين أقبروا مقتضيات مطلب الملكية البرلمانية الحقيقي، وهربوا البيان العام السياسي للمؤتمر الثالث، لتذوب طموحات الشبيبة التي ساندها الجناح النقابي آنذاك، وما كان على بعض الغاضبين سوى اختيار المنفى الاضطراري لدى المقاربة الحقوقية، وفي نفس الاتجاه كرس المنشقون عن الحزب «استقلاليتهم» التنظيمية والسياسية فأعلنوا عن حزبهم الخاص بهم.
ولأن الحقوقي واع بحدود صلاحياته ومهامه المتلائمة مع طبيعة إطاره الإصلاحي، فهو على عكس السياسي، غير مطلوب منه أن يجتهد بنضاله من أجل «إعادة توزيع الرأسمال»، في وقت لم يفلح السياسي أو المناضل الجذري حتى في وضع استراتيجية لـ «إعادة توزيع الدخل» كحد أدنى ومدخل لتفعيل مقتضيات العدالة الاجتماعية بأفق ليبرالي، ولأن المغرب دخل نفقا جديدا ضمن ما يسمى مواجهة «السكتة القلبية» بترسيخ فكرة النضال من داخل المؤسسات، وتحت ذريعة تجريب إمكانية الانتقال الديموقراطي بتناوب توافقي أولا، في انتظار نضج شروط التناوب الديموقراطي.
لكل ذلك ولغيره من الأسباب والحجج والمبررات، لم يعد مطلب السلطة مطلوبا بقدر ما صار المطلوب هو التسوية من أجل المشاركة في تدبير الشأن العام، وتحول الصراع العمودي إلى أفقي وعرضاني، عنوانه الكبير «إنقاذ اليسار» ومواجهة «التحريفية» وما رافقه من تبادل التهم والتخوين والتكفير، فنجح النظام السياسي في ضمان الانتقال السلس، وفق أجندة متفق عليها «فوقيا»، وجاء العهد الجديد مستندا على شرعية المفهوم الجديد للسلطة والعدالة الانتقالية، في حين ما زالت مقتضيات المصالحة تتعثر لغياب إرادة حقيقية لبلوغ الحقيقة وانعدام شروط مساءلة الوقائع والمواقع، مساءلة تحول دون تكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. فرغم الحراك الفبرايري، الذي دق ناقوس الخطر، فقد خرج كل واحد منا يفسر مطلب الحرية غائيا.. فبعضنا انخرط في الحراك الفبرايري لحماية حرية الملكية/ حق التملك، والآخر انضم إليه ولكن بتفسير مغاير للغاية من المطلب ألا وهو حرية الفعل/ حرية التعبير. لذلك سوف يستمر التنازع بين الفهمين، سيستمر النقاش حول حدود الملكية، وكلما كانت جماعية أو على الأقل عمومية/ بيد القطاع العام، كلما حققنا هامشا أوسع على صعيد حرية الفعل. من هنا علينا أن نفهم أن شعارات حركة عشرين فبراير لم تتحول إلى مطالب اجتماعية ثم سياسية، فالأهداف المعلنة أخفت بأن الغايات انحصرت في الأشكال الديمقراطية للحكم فقط وليس في المحتويات الاقتصادية والسياسية أيضا.
انتصر المحافظون هنا وهناك، بتكريس مقولة عبد الله العروي، الذي قال بأن الحشود تذهب هباء والتاريخ لا يحتفظ سوى بالوثائق، ولأن أغلب التقدميين قاطعوا المسلسل، دون استطاعتهم إقناع المجتمع برفضهم «التعايش» مع الظرفية والقبول بأهمية اعتماد صك الحقوق، والذي يتيح امكانية العودة إلي مربع الصراع الدستوري ومطلب الإصلاح المؤسساتي، خاصة في ظل الوعي بأن الحكومة المحافظة المعهود لها بتفعيل مقتضياته، لن تنسجم مع روح التغيير المتدرج، فضاعت الفرصة لاسترجاع الهمم والنفس الديموقراطي، مما هيأ الظروف للالتفاف على حركة عشرين فبراير كحالة نضالية.. وفي ظل انعدام التأطير وعدم وضوح الآفاق والعلاقة فيما بين مكونات «قيادتها»، وعلى إثر انسحاب دعاة المقاربة الكمية من الحراك وجد الرجعيون والمحافظون مبررات كثيرة لرفض مطلب الحداثة والعلمانية. وقد افتعل الانتهازيون والوصوليون عللا كثيرة لتأجيل مطلب الاشتراكية والديموقراطية، لكن من يقوى اليوم، منهم ومن اللبراليين والتقدميين، على رفض الانخراط في دينامية العدالة الاجتماعية؟
لقد حان الوقت لقوى اليسار أن تترك المشعل لشبيباتها كي تبلور ميثاق اشتغالها، متحررة من عقد الماضي وحزازات قياداته الماضية، وليسمح لي شبابنا بالتذكير بفقرة من نداء المحمدية من أجل العدالة الاجتماعية، الصادر عن الملتقى الشبابي التواصلي المنعقد يومي 20 و21 فبراير 2015 بمدينة المحمدية:
- ميثاق للشباب من أجل عدالة اجتماعية تكون ملامحه وفق ما يلي:
* الإقرار بمسؤولية الدولة في ضمان وتحصين الحقوق والحريات، وإرساء سياسات عمومية كفيلة بتحقيق مقتضيات العدالة الاجتماعية وفق المعايير الكونية لحقوق الإنسان.
* العمل على ضمان ولوج الشباب إلى مراكز صناعة القرار العمومي في جميع المجالات وكذا المشاركة فيها.
* العمل والتأكيد على ضرورة استقلالية القرار المالي والاقتصادي، وبناء الدولة الاجتماعية المسؤولة عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (خصوصا في مجالات الصحة والتربية والشغل).
* العمل على رفع والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية ، وتحقيق المساواة.
* تقييم ومساءلة السياسات العمومية المتعلقة بقضايا الشباب، وخصوصا مآل «الاستراتيجية المندمجة للشباب».
* العمل على استنفاذ تنفيذ مطلب القطع مع ماضي سنوات الرصاص بإعمال ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان...