الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد المرابط: الجهاد بين حدود الماهية الشرعية، وغلبة التوظيف الأصولي

محمد المرابط: الجهاد بين حدود الماهية الشرعية، وغلبة التوظيف الأصولي

لم يكن مقالنا السابق "مفهوم الجهاد في مقاربة السياق: من تخصيص السيف إلى تعميم النضال"، إلا مدخلا على طريق الإحاطة  بمختلف الحدود الدينية والفقهية والسياسية في هذا الموضوع، ولو من باب الإلماع إليها.

حدود الماهية الشرعية في الجهاد، تتوزعها من وجهين الحقيقة الدينية، والحقيقة الفقهية. فالحقيقة الدينية فيه، أوضحها نص الطرنباطي الفاسي، الذي أوردناه في المقال السابق، حيث حصر الجهاد في التدافع الإيديولوجي السلمي من خلال النضال باللسان على مستوى العقائد. وقد توجت رسالة أمير المؤمنين إلى مؤتمر مراكش حول الأقليات الدينية، هذا التراكم التاريخي في مفهوم الجهاد، وهي تعتبر أنه "لم يشرع الإسلام الجهاد إلا للدفاع عن النفس والحرمات عند الضرورة، ولم يجز بأي حال من الأحوال، أن يتخذ وسيلة لحمل الناس على الإسلام". وبالتالي لم يعد يعني الجهاد حسب الحدود الفقهية، "قتال مسلم كافرا غير ذي عهد، لإعلاء كلمة الله"، مع كل الاحترازات في هذه الحدود/ التعريفات، من تخصيص الكافر بالحربي وليس مطلق العدو، وإخراج "الشهوة في القتال للحمية"، أو "لدنيا أو مال" من الجهاد الشرعي، وبالتالي فقد تم حصر إعلاء كلمة الله، في التوحيد الذي تولاه علم أصول الدين. وبهذا يكون قد تم الفصل بين الدين والسياسة في الموضوع.

أما فيما يخص الحقيقة الفقهية/ السياسية في الجهاد، فإن مجموع الإنتاج الفقهي التقعيدي في هذا الباب، فهو -في سياق اكتمال نمو المفاهيم- من صميم "التعصيب" الذي تتولاه وظيفة سيادة الدولة، التي احتكرت السلاح واستعماله للضرورة، أو بعبارة أخرى، من صميم التطور الذي استوعبه منطق الدولة الحديثة، في ظل منتظم دولي قائم على أساس التعايش المشترك، وحتى حالات الحرب، فيتولاها القانون الدولي الإنساني، والذي ينهل في جانب منه، من هذه الحقيقة الفقهية على مستوى وثيقة المدينة والعهدة العمرية.

هذان المساران في التطور الطبيعي في مفهوم الجهاد، سيساعدان في ترشيد الفهم له، وهذا لا يلزم معه حذف هذا المفهوم من المقرر الدراسي، مع الاحتفاظ بالدليل خارج التأطير، بل يتطلب مجرد إخضاعه لمنهجية "السبر والتقسيم". وهذا ما تولاه الطرنباطي الفاسي من خلال تشربه لهذه المنهجية حتى ولو لم يفصح عنها. وهذا ما يتطلب مشروع تدوين جديد للمفاهيم الدينية، على ضوء الحاجيات الحقيقية لمتطلبات البناء الوطني، على طريق الجهاد الأكبر. وأعتقد أنه لما تكلمنا السنة المنصرمة عن "الدولة والمشروع: من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن"، فقد كنا بصدد نحت أولى اللمسات لتجاوز أعطاب المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر. وعلى سبيل الاستطراد يمكن تعزيز هذا المسار بحديث آخر لاحقا، عن الميراث الحسني في مدرسة أهل البيت في المغرب، لإنجاز قدر من التوازن مع الميراثين الحسيني والزيدي في هذه المدرسة، في سياق إعداد البلاد، لمواجهة مد "إمامي" متصاعد -يعيد أخطاء الهيمنة الوهابية تجاه مذاهب أهل السنة، بخطأ مماثل تجاه مذاهب مدرسة أهل البيت- وذلك على أرضية النقد المزدوج، حفاظا على الخصوصية المغربية، في مواجهة بدعة القول بالظاهر، وبدعة القول بالباطن. وهذا من "العواصم من القواصم" في هذا البلد الأمين.

نقول على بدء، للتحرر من جاذبية هذه الاستطرادات، إنه خارج هذين المسارين في التطور الطبيعي لمفهوم الجهاد، بقي الاستعمال/ التوظيف الأصولي لهذا المفهوم، هو الذي يشرط ماهيته الشرعية، وهو الاستعمال الذي هزم مرجعيات ومؤسسات ودولا. ولعل الإحساس بوطأة هذه الهزيمة هو الذي جعلنا نستبشر خيرا بإرادة أمير المؤمنين على "منع العبث بتأويل النصوص الدينية، ولاسيما ما يتعلق منها بالجهاد"، وإن كنا ندرك أن هناك جهات تريد الإبقاء على الدولة في مستوى معين من الضعف، لأهداف لم تعد خافية على المتتبعين لمآلات العهد الجديد.

وكما وعدنا في المقال السابق، فإن المؤرخ أحمد الشقراني الراشدي، وهو يؤرخ للمغرب الأوسط في القرن 19م، حلى الأمير عبد القادر بالمجاهد، في حين اعتبر بوعمامة مجرد ثائر على فرنسا، والسبب أنه "ظفر ببعض فقراء السبنيول وضعفائهم وهم أجراء على خدمة الحلفة فأباح لنفسه وأتباعه قتلهم بالحرق والنكال عقوبة لهم، بعد الظفر بهم والقدرة عليهم. وهذا دليل على جهله وعدم معرفته، إذ كيف يفعل، ما دليل عليه من الكتاب والسنة، ويأمر به، لأن المثلة والحرق للعدو بعد الظفر به حرام، لأنه لا يعاقب أحد أحدا بالنار ويجازي بها إلا الله سبحانه". وقد خلص الراشدي بعد استقرائه التاريخ في هذا الجانب، إلى القول: "فما وقعنا على أحد من الملوك حرق عبدا من عباد الله بالنار".

ولم يقف أمر بوعمامة عند هذا الحد، بل "إنه صار يشن الغارات على من لم يتبعه من المسلمين، وأباح فيهم القتل والسبي، وأخذ الأموال عقوبة على عدم بيعته ونصرته، وعلى امتناعهم الدخول ذلته وورطته، وظن بهم الظنون التي حاشاهم منها". وهو بهذا، "ما جلب للمسلمين مصلحة، ولا درأ عنهم مفسدة(..) وإنما جلب المصالح والمنافع لأعداء الله بالزيادة في مملكتهم". ومع بسط هذه النتيجة المتمثلة في خدمة مصالح التمدد الاستعماري في المغرب الأوسط، تساءل المؤرخ الراشدي: "وما علمنا ما قصده بقيامه، هل حصول المنفعة له ولتبعه بأخذ أموال المسلمين بشن الغارات عليهم، فهو حينئذ صائل وغاصب، يجب دفعه بما يندفع به (..) وإن كان قصده الجهاد، فهيهات هيهات، ما أبعده منه لأنه لا يجب إلا مع من ثبتت إمامته (..) أما هو فلا أقل من أن يكون في حقه حراما، لأنه ليس بإمام ومن معه ليسوا بجماعة. والجهاد تعتريه الأحكام. وهو من الجالبين للشر فقط".

لقد حاصر الراشدي، بوعمامة من مختلف الجوانب، بما في ذلك التمييز بين "أضغاث الأحلام" و"الرؤية الصالحة من الرجل الصالح"، باعتبار أن "المؤمن لا تغره أحلامه بخلاف الرؤيا فهي حق"، وحاصره بمتطلبات "الإمامة العظمى" التي يفتقر إليها. ولعل سلطة المؤرخ الراشدي، المتشبع بفقه المقاصد، تثير لدينا على الأقل، الوقوف على ثلاثة أمور:

- مسألة الاتصاف بما هو من الاختصاص الإلهي كالتعذيب بالنار، تحيل على قضية في المقرر المدرسي تعتبر أن الغاية من التعرف على أسماء الله وصفاته، هو التخلق بمقتضاها وتمثلها في السلوك، والحال أن الأمر ليس بهذا الإطلاق، فتقرب العبد بأسماء الله وصفاته يكون تعلقا. أما التخلق بها، فإنه لا يجوز للعبد التخلق ببعضها. وهذا التدقيق تغفله المقررات الدراسية. وفي هذا الإغفال للرؤية الصوفية، تكمن العديد من المخاطر والمزالق.

- ما فعله بوعمامة من حرق للمدنيين الأجانب، وقتل لمن لم يتبعه من المسلمين، مما حمل الراشدي من تجريده من تحلية "المجاهد"، يذكرنا بما تفعله "داعش" اليوم تماما. ولعل بوعمامة تأثر بأسلوب الوهابية الدموي في الجزيرة العربية، أو برواسب مذهب الخوارج، في المغرب الأوسط.

- اعتبار الراشدي أن الجهاد تعتريه الأحكام الخمسة، هو مدخل في غاية الأهمية لتأطير الموضوع برؤية مقاصدية. وأعتقد أنه يجب في تقرير هذه الأحكام، اعتبار شروط الزمان والمكان. وعلى سبيل الذكر، فمولاي موحند (المجاهد ابن عبد الكريم الخطابي) أحجم عن اجتياح مليلية خشية على المدنيين، لغياب "جند نظامي يقف عند الحدود التي يراعيها في عدم الفتك بالأجانب، ومن لا يستحق القتل". فهل عاملتنا إسبانيا بمثل هذه الأخلاق والآداب، وهي تمطرنا في الريف، بالغازات السامة؟

وبالجملة، فإن سلطة المؤرخ الراشدي، في باب المواطنة المسؤولة، تحملنا على التساؤل عن سلطة المؤرخ أحمد التوفيق، في باب تدبير المسؤولية؟ إنه ليس عبثا أن نختم المقال السابق، على سبيل التمهيد لمقال اليوم، بالقول: "إنها سلطة المؤرخ، وهي في حاجة إلى سلطة العالم والمثقف والسياسي والإعلامي.. لعصمة الدماء. "قل انتظروا إنا منتظرون"!

ويبقى لغلق هذه النافذة، أن نضرب موعدا آخر، مع هذا التفاعل الرمزي مع رسالة مراكش، تحت عنوان: "من متطلبات النهوض بثقافة السلم، ترشيد فهم الجهاد"!