ذهبت بعض القراءات والتحاليل للوضع الفلسطيني في سياق التطورات والتداعيات الأخيرة التي تميزت بتصعيد إسرائيل لهجماتها وعدوانها على المدنيين في قطاع غزة، الى ان الأمل في ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه المشروع في تقرير مصيره وفقا للقانون الدولي بات مهددا أكثر من أي وقت مضى. فبالتزامن مع الذكرى 77 لقيام إسرائيل (14 مايو 1948)، كشفت الحكومة اليمينية الإسرائيلية عن خطتها العدوانية الرامية الى مواصلة وتصعيد عملياتها العسكرية ضد السكان المدنيين في قطاع غزة. وتهدف هذه الخطة التي صادق عليها مجلس الأمن الإسرائيلي ووافقت عليها الحكومة بالإجماع الى " الاحتلال الكامل لقطاع غزة"،والتهجير القسري للسكان الى جنوب القطاع بذريعة " حمايتهم" . وحسب الإعلان الرسمي عن هذه الخطة في 5 مايو 2025، فان هدفها الأساسي يتمثل في تحرير ما تبقى من الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل المسلحة الفلسطينية منذ عملية السابع من أكتوبر 2023، و" استئصال " الجناح العسكري لحركة حماس والقضاء النهائي عليه.
والواقع أن إسرائيل ومن خلال التهديد والتصعيد الميداني، تسعى الى الضغط على أي مفاوضات ممكنة مع الطرف الفلسطيني ،ولم تعد تخفي مشروع استيطانها الدائم للأراضي الفلسطينية وتنفيذ سياسة ضمها لهذه الأراضي التي تعيش على وقع حرب مدمرة لم يعرف حدتها النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من قبل.
وتنفيذا لخطتها الخرقاء ،عمدت إسرائيل منذ إنهائها الأحادي لاتفاق وقف إطلاق النار في 22 مارس 2025 الى تكثيف هجماتها العسكرية على السكان المدنيين في قطاع غزة وتشديد الغارات الجوية والقصف اليومي وتدمير ما تبقى من المباني المدنية في غزة، وفرض الحصار المطبق لمنع وصول المساعدات الإنسانية للسكان وحرمانهم من الغذاء والماء والدواء والخدمات الضرورية للحياة، وتحريض المستوطنين اليهود على تصعيد اعتداءاتهم على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية والتمادي في الاستيلاء بالقوة على ممتلكات الفلسطينيين.
وتتضمن الخطة الإسرائيلية شقا يتعلق بتنفيذ عمليات واسعة للتهجير القسري للسكان المدنيين نحو جنوب قطاع غزة ،بدعوى إبعادهم و حمايتهم من العمليات العسكرية التي تشنها القوات الإسرائيلية ضد مقاتلي حماس ،كما تتضمن هذه الخطة بروتوكولا عسكريا "لتوزيع المساعدات الإنسانية" الذي رفضته منظمة الأمم المتحدة و أدانته بشدة المنظمات الدولية غير الحكومية ، لأنه تحول الى "مصيدة لموت للسكان الذين يلقون حتفهم سعيا للحصول على الغذاء "، لا سيما ان مكتب الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية اعتبر أن إسرائيل قد حولت قطاع غزة الى المكان الأكثر عرضة للجوع في العالم .وتنص الخطة أيضا، على تنظيم وتنفيذ عمليات " للهجرة الطوعية "للسكان المدنيين من قطاع غزة نحو بلدان أخرى بما يرتبه هذا القرار من آثار و تبعات لا يمكن تصورها على حقوق الشعب الفلسطيني في البقاء على أرضه وتقرير مصيره .
ومما لا جدال فيه أن استمرار العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، وتدميرها شبه الكامل بعد مضي أكثر من سنة ونصف على ما حصل في 7 أكتوبر 2023 ، لا يمكن أن يبرر بأي حال من الأحوال بممارسة إسرائيل "لحقها في الدفاع المشروع "عن سكانها ، كما أنه يعتبر انتهاكا متعمدا ومتواصلا لجميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة منذ سنة 1947 ، فضلا عن ضرب اسرائيل بعرض الحائط للأوامر الملزمة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية ( 26 يناير 2024 ، 28 مارس 2024 ، 24 مايو 2024) ،وعدم الامتثال لها بغطرسة وتحد فاضح للمجتمع الدولي و للشرعية الدولية، مما يدفعنا الى القول دون مبالغة أن استمرار هذا الوضع المأساوي ينذر بأسوأ "السيناريوهات" المحتملة .
وإذا كان من الممكن من وجهة التحليل القانوني أن تكون السياسات الإسرائيلية وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، و الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها قواتها العسكرية ضد المدنيين في سياق عدوانها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، و تكييفها من زاوية القانون الدولي موضوع خلاف بين المختصين، (جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية او انتهاكات لحق الشعوب في تقرير المصير أو حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة ...) ، ذلك أن هذه التوصيفات ما زالت محل نقاش أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه التأويلات والتكييفات القانونية ليست حصرية في حد ذاتها كما لا يستبعد أي واحد منها التوصيفات الأخرى أو يستثنيها بالضرورة .
بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها ، هي أن حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي ما فتئت تمعن في إنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود باعتباره من آخر الشعوب الخاضعة للاحتلال الأجنبي والذي لم يستطع بعد ممارسة حقه في تقرير مصيره.
إن حكومة دولة تدعي " الطابع الديمقراطي" لنظامها السياسي، وتتباهى بكونها " دولة قانون" وتدافع عن سياستها الاستيطانية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ، لا تتردد في نفس الوقت في شن هجوم عنيف على هذه المحاكم ، واتهامها بخطيئة معاداة السامية والتحريض ضد قضاتها والتشكيك في استقلاليتهم ونزاهتهم .فالحكومة اليمينية الإسرائيلية لا يمكنها مطلقا ان تحجب حقيقة كون ممارساتها العدوانية تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني ( منع عمليات التهجير القسري للسكان التي تعتبر من جرائم الحرب وفقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ) ،كما ان هذه الممارسات تخرق حق الشعوب في تقرير المصير باعتباره قاعدة آمرة للقانون الدولي ، فضلا عن كون العدوان الإسرائيلي على السكان المدنيين في قطاع غزة ينطوي على احتمال قوي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وفقا للتعريف الذي تنص عليه اتفاقية 1948 لمنع هذه الجريمة والمعاقبة عليها .
ولعل ما يجدر التأكيد عليه بهذا الخصوص، أن استحضار معايير القانون الدولي التي تنتهكها إسرائيل بصلف قل نظيره في تاريخ النزاعات المسلحة، ليس مجرد استلهام قيم أخلاقية فضفاضة أو المطالبة باحترام مبادئ موروثة عن مثالية عفا عنها الزمن، كما لا يمليه البتة توظيف مزاعم وادعاءات واهية في شن "حرب قانونية" على إسرائيل، بل يتعلق الأمر بقواعد قانونية واتفاقية ملزمة وضعتها الدول واعتمدتها وصادقت عليها عبر المسار الطويل لإرساء القانون الدولي والمنظومة العالمية لحقوق الإنسان الذي بدأ قبل 1945 وتواصل بعدها.
ويستمد هذا القول أساسه وسنده القانوني الملزم من مضمون الأوامر التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في 2024، في الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب افريقيا ضد إسرائيل، والتي حددت فيها المحكمة بتفصيل التدابير الاحترازية المؤقتة والاستعجالية التي يجب على إسرائيل اتخاذها للكف عن ارتكاب انتهاكاتها العديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والحد من تبعاتها على حقوق الشعب الفلسطيني. كما أن محكمة العدل الدولية قد سبق لها أن حسمت في رأيها الاستشاري الصادر في09 يوليوز 2004 (قضية الجدار الفاصل)، ثم في رأيها الاستشاري الآخر حول " التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية" (19 يوليوز 2024)، من بين مجموعة من الالتزامات الأخرى لسلطة الاحتلال، سحب وإخلاء جميع المستوطنين الإسرائيليين من الأراضي الفلسطينية المحتلة بطريقة غير مشروعة. ومن المرتقب أن تعود المحكمة الى هذا الموضوع بدقة وتفصيل بمناسبة الرأي الاستشاري الذي طلبته منها الجمعية العامة للأمم المتحدة (19 دجنبر 2024) بخصوص " التزامات إسرائيل المتعلقة بوجود وأنشطة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الأخرى والدول في الأرض الفلسطينية المحتلة ".
وإذا كانت إسرائيل تتحمل المسؤولية القانونية الدولية المباشرة عن انتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وهذا ما خلصت اليه محكمة العدل الدولية في جميع أراءها الاستشارية الأخيرة، فإن الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة لا يمكنها بأي مبرر كان
التنصل من واجب الوفاء بالتزاماتها تجاه السياسات والممارسات والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بصفتها دولة احتلال في الأراضي الفلسطينية. وعلاقة بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمنت محكمة العدل الدولية فتاواها ذات الصلة - وإن بشكل جزئي -ما يفيد تذكير الدول بالتزاماتها وفقا للقانون الدولي، على الرغم من حرص المحكمة المعهود على مراعاة الامتيازات السيادية للدول وحساسيتها.
وأمام ما يلوح في الأفق من استمرار إسرائيل في ارتكاب إبادتها الجماعية للشعب الفلسطيني وتنفيذ خطة تطهيرها العرقي لسكان الأراضي المحتلة، لم يعد بإمكان الدول وخاصة بلدان الاتحاد الأوروبي الاقتصار أمام خطورة الوضع، على الدفاع الخطابي عن القانون الدولي أمام محكمة العدل الدولية أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقد أصبح من الواجب عليها أخلاقيا وسياسيا وقانونيا اتخاذ التدابير العملية واللازمة – وان بدون الولايات المتحدة – التي تذهب الى أبعد من الإعلان عن النوايا والمبادئ.
ويبدو لنا أن من بين هذه التدابير التي يجب على الدول اتخاذها دون تردد أو تأخير:
_ الاعتراف دون قيد أو شرط بالدولة الفلسطينية بالنسبة للدول التي لم تعترف بها بعد،
_ عدم الاعتراف الواضح والذي لا يحتمل التأويل بالوضع غير القانوني الناتج عن احتلال إسرائيل بالقوة للأراضي الفلسطينية وعمليات ضمها غير القانوني لهذه ا للأراضي (الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية 19 يوليوز 2024).
_ مواصلة الدعم السياسي والمالي لمنظمة الأمم المتحدة التي أناط بها المجتمع الدولي المسؤولية الدائمة عن القضية الفلسطينية.
_الدعم غير المشروط للمحكمة الجنائية الدولية والدفاع عن سلطة قراراتها.
_ عدم التقاعس عن محاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية أمام محاكمها الوطنية المختصة.
_ الإسراع في اعتماد جميع التدابير الاحترازية التي قررتها محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري ل 19 يوليوز 2024 والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد إسرائيل بهدف الإيقاف الفوري لأي دعم أو مساعدة للاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية.
_اعتماد التدابير الاقتصادية والمالية المتناسبة ضد إسرائيل والعقوبات التي تستهدف المسؤولين الإسرائيليين.
_إعادة النظر في الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي معها.
_اعتماد جميع التدابير اللازمة التي من شأنها إيقاف تزويد وبيع او نقل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للأسلحة والتجهيزات والمعدات الى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة التي يمكن أن تستعمل لارتكاب جرائم دولية.
وتشمل هذه التدابير أيضا التحرك السياسي الجاد في اتجاه دعم الأطراف المدنية الفلسطينية والإسرائيلية المدافعة عن وقف فوري ودائم للحرب، وبعث الروح في المفاوضات السياسية في أفق حل الدولتين الذي يحترم حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف في تقرير مصيره وقيام دولته الوطنية المستقلة على أرضه وفقا للشرعية الدولية وبضمانات دولية.
إنه بإمكان الدول المبادرة إلى اتخاذ هذه التدابير إذا ما توفرت لديها الإرادة الحقيقية والشجاعة السياسية للتخلي عن عماها الذي طال أمده عما يرتكب من جرائم دولية فظيعة في حق الشعب الفلسطيني، ودون أن تتذرع بانتظار صدور غير محتمل لقرار أممي من مجلس الأمن.
لقد كان طموح المجتمع الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بناء مؤسسات وإرساء منظومة من القواعد الكفيلة بحماية المبادئ الإنسانية، وذلك ما تجلى في تحديد وتعريف مفاهيم الجرائم ضد الإنسانية والجرائم الدولية ومكونات جريمة الإبادة الجماعية فضلا عن اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948، كما تم بعد ذلك الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها رغم المقاومة الشرسة للقوات الاستعمارية.
وأمام المأساة المرعبة التي يشاهد العالم حصولها في قطاع غزة، فإن هذه القوانين الإنسانية هي التي يجب على كافة الدول الدفاع عنها وحمايتها
باستعمال سلاح القانون وبنفس العزيمة والإصرار من أجل الشعب الفلسطيني وجميع أنصار السلام في العالم.
محمد العمارتي، أستاذ القانون الدولي .