سوق "الحل السياسي" ازدهر مع الهجَمة الروسية على سوريا. قبلها، تناولته ألسنة متفرقة هنا وهناك، كلما حلّت مصيبة جديدة على السوريين؛ ولكن الروس حملوه على أجنحة طائراتهم الحربية. قال رئيسهم، وهو ينفخ بعضلاته، إنهم يحضرون هنا من أجل إيجاد "حل سياسي". وبعد مرور الثلاثة أشهر المقررة للقيام بـ "المهمة"، استعاد لسان الروس "الحل السياسي"، وأخذ اهتمامهم به يتصاعد، يفرض نفسه بإلحاح، حتى بلغوا ما بلغوه الآن، بعد ستة أشهر على هجمتهم، من قدرة على قيادة مؤتمر "جنيف 3"، على أساس انهم يقودون "الحل السياسي".
والأميركيون، وسط هذه المآثر، يتواطؤون، ينّسقون، يقول وزير خارجيتهم إن المؤتمر هذا هو "فرصة تاريخية"؛ كأن الكذبة الروسية انطلت عليهم، هم أيضاً. فهم، أي الأميركيين، يفرحون بالتورط الروسي المباشر في سوريا؛ لعلّ الروس، بذلك، يغطسون في أوحال الشرق الاوسط، يسْتَعدون السنّة، ويتحطّم اقتصادهم، ولا يحتكرون، في الآن عينه، السيطرة على سوريا. ما يخفّف عنهم قساوة إعادة سيطرتهم على العراق، وصراعهم هناك مع الأتراك والإيرانيين.
"الحل" أولا: والذي يعني إيجاد مخرج لصعوبة محدّدة، وفي حالتنا، السورية، إيجاد طريقة لوقف القتل كله، ومباشرة مرحلة انتقالية من دون بشار الأسد. من الزاوية الروسية، يعني "الحل" عمليا، قتل السوريين من "إرهابيين" ومدنيين، والوصاية على بشار. الغارات الجوية الروسية على سوريا وحدها، قواعدها العسكرية المتنامية على طول سوريا وعرضها، القضاء على المعارضة المسلحة، دون النيل من الإرهاب؛ ثم محاولة إنهاء المعارضة السياسية، بفرض معارضين سوريين روس، وإطلاق الوصف الرنّان عليها "المعارضة الديموقراطية العلمانية"، بمعنى ان المعارضة السياسية الأخرى ليست ديموقراطية ولا علمانية، بل "إرهابية"... كل هذا لا تنطبق عليه شروط الحل، إنما شروط تعقيد الحل، وجعله مستحيلاً. يلخّص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هذه الازدواجية المضلِّلة بالتشديد على الفصل "بين جنيف وبين مسار العمليات الميدانية"؛ وهو يقصد بـ "العمليات الميدانية" الحملة العسكرية الهستيرية التي يقودها الجيش الروسي في ريف شمال حلب، أثناء انعقاد هذا المؤتمر الذي يبحث في "الحل السياسي".
"السياسي" ثانياً: عندما يصف الروس "حلهم" بأنه "سياسي"، يريدوننا أن نصدق، بأنهم "مسالمون"، غير محاربين، ولا غلظاء. هم حملوا إلى سوريا طائراتهم وبوارجهم وصواريخهم وجنودهم، معتقدين بأن مجرد رؤيتهم، هكذا، مدجّجين بكل هذا السلاح، سوف تهلع منهم سوريا وتفرّ، ويكونوا بذلك قد فرضوا "الحل السياسي"، بإراقة القليل من الدماء. ومن بلية الزمن أنهم، كلما قصفوا، كلما قتلوا، أعادوا "السياسة" إلى ألسنتهم، وتلبسوا "سلمية" أجدادهم السوفيات. وجلّ ما يبتغون من كل ذلك، هو تكريس حصتهم السورية المتوسطية، كولونيالية جديدة، متعولمة، تتحول شيئاً فشيئاً إلى مشكلة من بين المشكلات الهائلة التي سوف يواجهها السوريون، بعد عودة بلادهم إليهم، وعودتهم إليها.
كان يمكن إيجاد "حل سياسي" في الأيام الأولى من الثورة ضد بشار الأسد. كان يمكن مثلا أن يرحل، بعد أن يكون قد "فهم" ما يريده الشعب، على غرار نظيره التونسي زين العابدين بن علي. كان يمكن أن يتنازل عن جزء من سلطته وسلطة أجهزته لصالح ممثلين عن المعارضة السياسية، أو لا يستجدي مساعدة إيران وميليشياتها المذهبية ليقضوا معه على ثورة السوريين ضده. ولكن ذلك مستحيل؛ فبشار، بحكم تركيبته النفسية الضعيفة، وكونه البديل عن الوريث الشرعي المتوفي... هو مرْغم على الاقتداء بوالده، الذي أنهى تمرّداً إخوانياً في حماه عام 1982، بمجزرة موصوفة. وإلا ما استحق إرثه، ما استحق رئاسة سوريا أصلاً، بحكم هذا الإرث. لذلك، عندما أطلقت أولى رصاصاته ضد المتظاهرين السلميين العزل من السلاح، قتل "الحل السياسي" من مهده. ومن يومها، تتعقد أكثر فأكثر معطيات هذا "الحل".
وحتى لو، بسحر ساحر، وُجد هذا الحل الآن، كأن يرحل بشار، ويتوقف إطلاق النار، ويعمّ السلام، فهذا لا يعني بأننا بلغنا "الحل السياسي". إنما يعني بأننا بلغنا خاتمة لمعضلة سياسية مستعصية، بثمن باهظ من القتلى والجرحى والمهجرين والضائعين والمحطمين، ومن خسائر في الحجر تضاهي الزلازل. وعندما تكون كلفة الحل على هذه الدرجة من الارتفاع، فيحسن أن نتكلم عن خاتمة صراع تاريخي، لا عن "حل سياسي".
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)