أحداث العنف الدموية التي شهدتها صحيفة "شارلي إيبدو" الساخرة، ماهي إلا رد فعل لتكرار الاساءة للدين الاسلامي، ورغم رفضي الدائم والصريح لسياسة القتل والتخريب وسفك الدماء، لأنها المسلك الوحيد للضعفاء الذين يجهلون تعاليم دينهم ويفتقرون إلى لغة الحوار، إلا أن هناك فرق شاسع ما بين حرية الفكر والابداع وما بين انتهاك المقدسات الدينية والمعتقدات، سواء كانت سماوية أو غير سماوية. تزايد إصرار الغرب على استمرار الاساءة نابع من عدة محاور على رأسها سياسة الاعلام الغربي الدائمة في إشاعة الإسلاموفبيا أو الخوف من الإسلام، وتعميم وتعميق الكراهية للدين، من خلال تسليط الضوء دائما على الأحداث الفردية، على الرغم من حذرهم الشديد تجاه الإساءة إلى لليهودية مثلا، لاعتبار ذلك معاداة للسامية ويستدعي المقاضاة وتحرك منظمات حقوق الإنسان. أما المحور الثاني فهو الفجوة الكبيرة بين المفاهيم وانغلاق الثقافات المختلفة، بشكل يمنع انفتاحها وامتزاجها، لأن الخلط بين مفاهيم الهوية والذات يبلور الشكل البناء أو الهدام للحوار، ويعكس الاشكالات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الشعوب والحضارات، الأمر الذي دعا الكثير الحركات العالمية للمطالبة بتعميم المواطنة "المُعولمة" وهو مصطلح مستحدث يصف إنسانا يستطيع التفاعل على مستوى عالمي مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته أو موطنه، وانتقلت هوية الانسان من منظور وطني بحث أي مفهوم وطني شاسع، يلتزم فيها الفرد باحترام التنوع والقدرة على التوفيق بين الصراعات والتوصل إلى توافق في الآراء، من خلال وسائل سليمة، بما في ذلك (المناقشات والمداولات والمفاوضات) وهذا بالفعل ما كان يطبقه المهاتما غاندي، حين كان دائما يردد : " يجب أن افتح نوافذ بيتي لكي تهب عليه رياح جميع الثقافات بشرط أن لا تقتلعني من جذوري".
النخب الحزبية المختلفة لم تتبع منذ سنوات سوى سياسة رد الفعل الهش، الذي يرتكز على الشعارات والمصطلحات الرنانة، دون اللجوء لحل جذري وهو كيفية مخاطبة الشعوب والثقافات التي نجهلها، والتي لم تجد سوى أبواقا لديها خطط واضحة للتشويه وغرس الكراهية، بناء عليه أصبحنا في حاجة ماسة لتعميق ثقافة الحوار واحترام التنوع الثقافي والإيديولوجي وترسيخ مفاهيم العدالة.. وإليكم نموذج تاريخي لعب فيه الحوار دور ذهبي لتخطي الأزمات الفردية المجتمعية، وهو السلطان الذي رُفضت شهادته في عهد السلطان العثماني بايزيد الأول الملقب بالصاعقة، هذا السلطان الفاتح اقتضى أمر ما حضوره للإدلاء بشهادته أمام القاضي والعالم المعروف "شمس الدين فناري". وقف السلطان أمام القاضي وقد عقد يده أمامه كأي شاهد عادي، رفع القاضي بصره إلى السلطان قبل أن يقول له : (لا يمكن قبول شهادتك، فأنت لا تشهد صلاة الجماعة ومن لا يشهد صلاة الجماعة دون عذر شرعي، يُمكن أن يكذب في شهادته). نزلت كلمات القاضي نزول الصاعقة على رؤوس الحاضرين في المحكمة، كان هذا اتهاما كبيرا، بل إهانة للسلطان بايزيد. تسمر الحاضرون في أماكنهم وقد حبسوا أنفاسهم ينتظرون أن يطير رأس القاضي، وبإشارة واحدة من السلطان، لكن السلطان لم يقل شيئا، بل استدار وخرج من المحكمة بكل هدوء. أصدر السلطان في اليوم نفسه أمرا ببناء جامع ملاصق لقصره، وعندما تم تشييد الجامع، بدأ السلطان يؤدي صلواته في جماعة. هذا ما سجله المؤرخ التركي عثمان نزار في كتابه "حديقة السلاطين".
أحب أن أختم تصريحي لكم بمقولتين في غاية الأهمية، الأولى : للفيلسوف الفرنسي "ألبير كامو" : " اسمعني جيدا حتى تفهمني لا تقاطع حديثي لأكمل أفكاري . اخفض صوتك حتى افهم لغتك. ابتسم حتى أقبل آرائك. والثانية : للعالم والمخترع بنجامين فرانكلين : "كن متحضرا مع الجميع اجتماعيا مع الكثيرين ومقربا للقليلين وصديقا لفرد واحد ولا تكن عدوا لأحد".