Tuesday 9 September 2025
خارج الحدود

ادريس الفينة: الأزمة الاقتصادية العميقة في فرنسا وأثرها على الاستقرار السياسي

ادريس الفينة: الأزمة الاقتصادية العميقة في فرنسا وأثرها على الاستقرار السياسي رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو
فرنسا، رابع أكبر اقتصاد في العالم الغربي، تعيش منذ أكثر من عقد على وقع أزمة اقتصادية متشابكة ذات أبعاد هيكلية، لا يمكن اختزالها في تباطؤ النمو أو صعود معدلات البطالة فقط. هذه الأزمة تتقاطع مع ضغوط اجتماعية متفاقمة، ومحدودية قدرة الدولة على الاستجابة لمطالب المواطنين في ظل قيود مالية صارمة، ما جعلها تتحول إلى تهديد مباشر لاستقرار النظام السياسي الفرنسي.
 
جذور الأزمة الاقتصادية
1. تراجع القدرة التنافسية
الصناعة الفرنسية فقدت تدريجيًا موقعها أمام القوى الصاعدة داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه. ارتفاع تكاليف الإنتاج والضرائب الثقيلة جعل الشركات الفرنسية أقل جاذبية مقارنةً بألمانيا أو أوروبا الشرقية.

 
 2. البطالة البنيوية
رغم محاولات الإصلاح المتكررة، بقيت معدلات البطالة فوق المتوسط الأوروبي. بين الشباب، تجاوزت النسبة 17% في بعض المناطق، خاصة في الضواحي المهمشة حيث يتقاطع العامل الاقتصادي مع العامل الاجتماعي والهوياتي.
 
3. أزمة المالية العمومية
الدين العمومي قفز إلى ما يفوق 110% من الناتج الداخلي الخام، فيما تواصل العجز في الميزانية بمعدلات مقلقة. هذا القيد المالي يحدّ من قدرة الحكومات على ضخ استثمارات أو تقديم دعم اجتماعي واسع.

 
 4. القدرة الشرائية والتضخم
موجات التضخم المتتالية منذ 2022، خصوصًا في الطاقة والمواد الغذائية، ضربت قلب الحياة اليومية للفرنسيين، ما ولّد شعورًا عارمًا بالتدهور الاجتماعي.
 
الارتدادات السياسية والاجتماعية
 1. تآكل شرعية النخب الحاكمة
الأزمة الاقتصادية غذّت أزمة ثقة عميقة في النظام السياسي. سواء مع الحكومات اليمينية أو اليسارية، يُنظر إلى الدولة كعاجزة عن إيجاد حلول. هذه الفجوة فتحت الباب أمام نزعة احتجاجية واسعة.

 
 2. صعود اليمين المتطرف واليسار الراديكالي
مارين لوبان وجان لوك ميلونشون أصبحا رمزين لمعارضة راديكالية، تستقطب ملايين الناخبين الغاضبين من “النظام”. هذا الاستقطاب يُضعف إمكانية بناء أغلبيات مستقرة في البرلمان.

 
 3. الشارع كمسرح دائم للاحتجاج
من “السترات الصفراء” إلى مظاهرات التقاعد، يتحول الشارع الفرنسي إلى فاعل سياسي موازٍ. تكرار هذه الحركات يعكس غياب قنوات فعالة للتعبير داخل المؤسسات.

 
 4. تحديات الهوية والوحدة الوطنية
الأزمات الاقتصادية تلتقي مع قضايا الهجرة والاندماج، لتغذي خطاب الانقسام. كثير من الاحتجاجات الاجتماعية تأخذ بُعدًا هوياتيًا يزيد من هشاشة الاستقرار.
 
انشغال باريس بأزماتها الداخلية قلّص وزنها في الاتحاد الأوروبي وأضعف قدرتها على المبادرة في ملفات دولية أساسية. التوازن الفرنسي–الألماني أصبح أكثر هشاشة، فيما تصاعدت الشكوك داخل أوروبا حول قدرة فرنسا على مواكبة مشاريع التكامل الكبرى.
 
الأزمة الفرنسية اليوم ليست مجرد أرقام نمو أو معدلات بطالة، بل هي أزمة عقد اجتماعي انهار تدريجيًا. بقاء الوضع على حاله قد يعجّل بتصدع النظام السياسي للجمهورية الخامسة، ويفتح الباب أمام إعادة صياغة عميقة للمشهد السياسي والاقتصادي الفرنسي. ما لم تنجح فرنسا في إصلاحات هيكلية تعيد الثقة وتؤسس لنمو مستدام، فإنها ستظل ساحة مفتوحة لعدم الاستقرار، داخليًا وأوروبيًا على حد سواء.