في لحظة مفصلية تعيد رسم ملامح توازن القوى في الشرق الأوسط، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وقفٍ فوري لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران، واضعاً بذلك حداً لسلسلة من التصعيدات الخطيرة التي كادت تنزلق بالمنطقة إلى مواجهة شاملة. لم يكن هذا الإعلان نتيجة مفاوضات دبلوماسية تقليدية، بل جاء بعد ضربة أميركية حاسمة دمّرت ما تبقى من مشروع إيران النووي، في عملية سبقتها غارات إسرائيلية دقيقة عطّلت بشكل كامل منظومات الدفاع والمراقبة الجوية الإيرانية.
الرسالة كانت واضحة: الزمن الذي كانت فيه طهران تراوغ وتناور باسم الملف النووي قد ولى. فمنذ سنوات، كانت إيران تراكم أوراق ضغطها عبر الميليشيات، وبرامج التخصيب، وخطابات التحدي، ولكن هذه الورقة الأساسية سُحبت منها الآن بالنار لا بالتفاوض. إيران تدخل مرحلة جديدة من دون عقدة نووية، ومِن دون سلاح ردع وهمي. وهي، اليوم، أمام خيار لا مفر منه: العودة إلى طاولة المفاوضات، ولكن هذه المرة بشروط المنتصر لا شروط المتردد.
كل الأذرع الإقليمية المرتبطة بإيران – من الحوثيين في اليمن، إلى الحشد الشعبي في العراق، مروراً بحزب الله في لبنان – وجدت نفسها أمام معادلة جديدة: إما إعادة التموقع والانكماش، أو الفناء السياسي والعسكري. ففي ظل انكشاف الراعي الإيراني، تفقد هذه الكيانات مبرر بقائها، وتدخل في صراع وجودي داخلي لن تخرج منه سالمة.
الواقع الجديد سيفرض على إيران – عاجلاً أو آجلاً – الانخراط في اتفاقيات اقتصادية كبرى مع الولايات المتحدة، سواء عبر مشاريع إعادة الإعمار، أو فتح السوق الإيرانية أمام الاستثمارات الغربية، في محاولة لشراء الاستقرار مقابل التنمية. إنه تحول من نموذج المقاومة العبثية إلى منطق الانفتاح المدفوع بالحاجة الملحة إلى التعافي الداخلي. سنوات من المناورة، التهديد، والتضليل الإعلامي تتلاشى، لتحل محلها مرحلة لا مكان فيها للغموض الاستراتيجي أو حسابات الثورة.
ورغم ما يبدو من إشارات أولية إلى هذا التحول، إلا أن المعضلة الكبرى التي ما زالت قائمة هي معضلة القيادة في إيران. فالنظام القائم – الذي تدين شرعيته لإرث الخميني – يبدو عاجزاً عن التفاعل مع الجيل الإيراني الجديد الذي نشأ في زمن الإنترنت، والانفتاح النسبي، والمطالبات الاجتماعية المتزايدة. إيران بحاجة إلى قيادة من جيل جديد، قادرة على صياغة خطاب سياسي واقعي، يعترف بأخطاء الماضي، ويعيد إدماج إيران في منظومة الشرعية الدولية.
لكن هذا التغيير لن يكون سهلاً. ثقافة الظل، الحرس الثوري، والهالة الثورية التي تسيطر على مؤسسات الحكم تجعل من أي إصلاح داخلي عملية محفوفة بالمخاطر. إيران لا تزال رهينة ماضيها، سجينة سردياتها القديمة، وغير قادرة على التحرر من الذكريات الثقيلة التي حكمت سياستها منذ 1979.
ومع ذلك، فإن المشهد العام يقول إن كل الطرق تؤدي اليوم إلى روما، ولكن بشروط أميركية هذه المرة، لا بشروط الثورة الإسلامية. ما بدأ كتصعيد عسكري ينتهي الآن كفرصة تاريخية لإعادة ضبط مسار إيران، ليس فقط خارجياً بل داخلياً أيضاً. أما ما إذا كانت طهران قادرة على اغتنام هذه الفرصة، فذلك ما ستكشفه الأشهر القادمة.
د. إدريس الفينة/ خبير في الاقتصاد الجيوسياسي