Monday 23 June 2025
خارج الحدود

إدريس الفينة: إيران والعقل العربي.. من التوظيف العقائدي إلى السيطرة الاستراتيجية

إدريس الفينة: إيران والعقل العربي.. من التوظيف العقائدي إلى السيطرة الاستراتيجية علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران (يسارا) وآية الله الخميني
في مسارها الطويل لضمان بقاء النظام، أدركت الجمهورية الإسلامية الإيرانية باكرًا أن التأثير الحقيقي لا يُقاس فقط بميزان القوة العسكرية، بل أيضًا بالقدرة على التحكم في الوعي الجماعي العربي. هذا الإدراك تحوّل إلى استراتيجية ممنهجة اعتمدت على التغلغل في القضايا الأكثر حساسية لدى الشعوب العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والعداء التقليدي للهيمنة الأمريكية. غير أن الهدف لم يكن يوماً تحرير الشعوب أو نصرة القضايا، بل ضمان استمرارية نظام يواجه منذ عقود شرعية سياسية متآكلة داخلياً، ومقاومة إقليمية متزايدة خارجياً.
 
مع اندلاع الحرب الإيرانية العراقية عام 1980، وجدت طهران نفسها أمام واقع إقليمي معادٍ: الغالبية العظمى من الدول العربية اصطفّت إلى جانب بغداد، لا فقط باعتبارها دولة عربية، بل لِما مثّله العراق آنذاك من قوة ثقافية وتأثير حضاري ممتد في الوجدان العربي منذ خمسينيات القرن الماضي. قرأت القيادة الإيرانية هذا الاصطفاف على أنه خطر وجودي، واعتبرت أن كسر الهيمنة العراقية يجب أن يمر عبر السيطرة الرمزية والمعنوية على ما يشغل الرأي العام العربي، وهو ما تجسّد لاحقاً في محاولات طهران تصدير الثورة وتقديم نفسها كحامية للقضايا الإسلامية. واضعاف شرعية الأنظمة العربية في عيون شعوبها وجعلها تظهر بمظهر "الأنظمة الخائنة " لقضايا شعوبها..
 
كانت القضية الفلسطينية نقطة التحول. فحتى أواخر السبعينيات، لم يكن لإيران – سواء في العهد الشاهنشاهي أو في بدايات النظام الثوري – أي ارتباط فعلي أو دعم ملموس للقضية. لكن ما إن اشتد الصراع مع بغداد، حتى شرعت طهران في إعادة التموضع الخطابي، مدعية الاستعداد لإرسال قوات إلى لبنان في ذروة حربها مع العراق، ليس بهدف المواجهة مع إسرائيل بقدر ما كان لتوجيه رسائل دعائية مدروسة إلى الشارع العربي. في المقابل، عملت على تأسيس ودعم حركات مسلحة في مناطق تواجد الأقليات الشيعية، من اليمن إلى البحرين، مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان، في مسعى لتحويل الصراعات المحلية إلى ساحات لنفوذ إيراني مباشر أو غير مباشر.
 
استراتيجية “الحروب بالوكالة” لم تكن وليدة صدفة، بل أداة مركزية في العقل السياسي الإيراني. فقد أدرك صانع القرار في طهران أن كلفة الصدام المباشر مع الغرب أو الأنظمة العربية الراسخة قد تكون باهظة، بينما يمكن تحقيق الأهداف ذاتها عبر وكلاء محليين يتبنّون خطاب المقاومة والتحرر، بينما يرسّخون في العمق أجندة طائفية تخدم مشروع الولي الفقيه.
 
هذا التغلغل الممنهج في القضايا العربية، خصوصًا عبر حزب الله في لبنان الذي شكل تلك العصى الغليظة التي تهش بها طهران على اعدائها عرب وغير عرب، شكّل لسنوات طويلة مصدر قوة لطهران، لكنه تحول لاحقًا إلى فخ استراتيجي لها. فمع تساقط قادة هذا الحزب، ومع تصاعد التذمر الشعبي العربي من السياسات الطائفية التي غذّتها طهران في عدة دول، بدأت ملامح الارتداد تظهر بوضوح. فاليوم، يدرك النظام الإيراني أن ربط مصيره بمصير حركات مثل حزب الله لم يعد ورقة ضغط بل نقطة ضعف استراتيجي. وان سقوط حزب الله اطلق شرارة سقوط المشروع الإيراني برمّته وهو مانشهده اليوم بشكل واضح.
 
يمكن القول إن إيران لم تكتفِ بتصدير الثورة، بل حاولت تصدير منظومة ذهنية كاملة تقوم على الهيمنة الرمزية، والتحكم بالعقل العربي، واستثمار القضايا النبيلة في صراعات لا علاقة لها بمصالح الشعوب. لكن هذه الاستراتيجية – مهما بدت محكمة – أثبتت اليوم هشاشتها بل تحولت لفخ استراتيجي لنظام كان يتغدى ويتلذذ بالصدامات العربية.