يشهد العمل الجمعوي في المغرب تحولات عميقة، حيث أنه بعد تزايد عدد الجمعيات في شتى القطاعات يسجل تراجع نوعي في أدائها، مصحوبة بمحاولات منهجية لاحتوائها واحتواء العمل الجمعوي والتحكم فيه، عبر آليات تهدف إلى تقويض استقلاليته وتوجيهه لخدمة أجندات معينة بعد أن كابدت الفعاليات الرائدة المختلفة على مدى عقود سابقة جهودا كبيرة وعملاقة لتثبيته والاعتراف به وبدوره واهميته، أحد أبرز أدوات هذا التحكم والاحتواء هو الدعم العمومي أو التمنيح بابتزاز الجمعيات، باعتماد "معايير" صيغت من طرف واحد وتُطبق بدون شفافية، مما يجعل الجميع في سلة واحدة، وهو ما يثير تساؤلات حول فعاليته وشفافيته.
في السنوات الأخيرة، وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون العمل الجمعوي ركيزة للمشاركة المجتمعية والتنمية عمليًا وليس فقط في الواجهات الشكلية، تشهد بلادنا حملة خفية لكنها منهجية لتقويض المجتمع المدني، فنشهد تحولًا خطيرًا في التعامل مع العمل الجمعوي المستقل، ولم تعد أساليب المواجهة المباشرة هي الخيار الوحيد، بل ظهرت استراتيجيات أكثر دهاءً من تشويه وتحويل المنظمات المجتمعية إلى كيانات بلا أثر؛ بدءًا بتتفيه العاملين فيه والعمل نفسه، مرورًا بتحويله إلى كيان بلا روح، وجعله وسيلة للاستعراض الاستهلاكي فقط، ووصولًا إلى خنقه ماليًا، وتُستخدم أدوات متعددة لـ "تدجين" العمل الجمعوي وإفراغه من مضمونه؛ هذه العملية، التي يمكن تسميتها بـ "الاحتواء الناعم"، تمر بمراحل متدرجة تهدف في النهاية إلى تجريده من قدرته على المشاركة.
1- مراحل الاحتواء الناعم للعمل الجمعوي
لقد مرت هذه العملية، اسوة بما جرى على مستوى فعاليات مدنية أخرى، بمراحل مختلفة، بدأت بالمرحلة الأولى الحرب الإعلامية والنفسية: حيث تبدأ بعملية تبخيس منظّم، يُصوَّر العاملون في الجمعيات على أنهم "مشاغبون" أو "أدوات خارجية" أو يُصوَّر نشطاؤها على أنهم بعيدون عن "هموم الناس"، يتبع ذلك التعتيم الإعلامي عبر تجاهل إنجازات العمل الجمعوي أو اختزاله في أنشطة هامشية، مع الترويج لخطاب بديل يركز على الجمعيات التي تقدم مساعدات آنية دون معالجة جذرية للمشكلات.
ثم المرحلة الثانية: التدجين القانوني والمؤسساتي
تفرض قيودًا بيروقراطية مثل اشتراط موافقات لتأسيس الجمعيات أو تنفيذ مشاريعها، وتشريعات معقدة وثقيلة، مما يحول الجمعيات إلى "هياكل فارغة" حيث تصبح الإدارة والورق أهم من العمل الميداني، فتتحول جمعيات حيوية إلى خائفة من اتخاذ أي موقف.
والمرحلة الثالثة: الاختراق والاستنساخ وصناعة جمعيات موازية
تظهر كيانات تتنافس على التمويل والمشاريع، مثل تجربة جمعيات السهول والوديان، ثم جمعيات "ولاد الحومة"، حيث يتحول المجال إلى تنافسي قائم على الولاء لا الكفاءة، فتُمنح المشاريع لمن يقبل بالتبعية بدلاً من الكفاءة، فتصبح "الصفقات" هي المعيار لا التأثير المجتمعي؛ هذه هي مرحلة "وزيعة" دعم الجمعيات، حيث استنسخت فيها المئات من الجمعيات وسرقت الشعارات والمبادئ خدمة لأغراض سياسوية محددة.
ثم المرحلة الرابعة: الإفقار الممنهج: يتم تحويل التمويل إلى أداة عقابية عبر دعم الجمعيات الموالية فقط، وخنق الجمعيات المستقلة بتعقيد إجراءات التحويلات المالية أو فرض اقتطاعات غير مباشرة!
وهي مراحل متداخلة تستخدم حسب الحاجة والاهداف المراد بلوغها، واليوم تركب هذه العمليات على موجة التقدم التكنولوجي و"ضرورات" والزام الرقمنة، وتُصاغ آليات تصفية وترتيب ب "معايير" شكلية، من منصات وبوابات غير قادرة على تدبيرها وصيانتها فبالأحرى مطالبة الجمعيات التي تعتمد في عمومها على التطوع، انطلاقا من استغلال معلومات "الملفات الإدارية" للتحكم في البرامج والأنشطة من منطلقات خاصة غير معروفة وغير مفهومة، ولتصنيفات واحكام نمطية جاهزة وجائرة حسب أهواء موجهة وحسب خارطة سياسوية مستقبلية.
يحدث هذا لأن المجتمع المدني الفعّال هو الفضاء الأخير الذي يمكن أن يقدم بدائل تنموية مستقلة ويحافظ على مساحة للمشاركة المواطنة في التغيير، فالعمل الجمعوي الحقيقي المسؤول يُزعج لأنه يُذكر بأن المجتمع قادر على التنظيم الذاتي ويمكن أن يطور ويأتي بالبدائل بما يسهل اعادة توزيع الأدوار بين الدولة الفاعلة المنظمة والعمل المدني المثمر، ورغبة من البعض في استعماله كأذرع منظمة لحملات معينة، في وقت يجب أن يصير دور "الدولة التنظيمية" هو التشريع والمراقبة وتطبيق القواعد المنظمة لمختلف الأنشطة، بما في ذلك الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، منتقلةً من دور " الدولة الإنتاجية" والعمل المباشر الى الاشراف ومواكبة الخدمات أي الانتقال إلى دور المُحكِّم والمُنظِّم والمنسق مع الفاعلين وأصحاب الحقوق.
2- أوجه الاحتواء الناعم للعمل الجمعوي
لقد عملت الأجهزة الرسمية المختلفة ومن بعدها الأجهزة شبه حكومية كذلك على السماح لنفسها بإدارة الدعم بصيغة مراقبة مستمرة وتدخلها الجائر عبر مراحل لتسمح لنفسها بمراقبة وتوجيه ذلك وليس لمواكبة الإنجازات، ومن ثمة العودة الى أنها كانت فاعلا مباشرا قبل أن يتدخل المجتمع المدني ليقوم بدوره، ولكن تمكنها من ذلك قانونا سمح لها بالتحكم في اهداف المشاركة المواطنة المطلوبة منها في تجاه المجتمع المدني، وبالتالي توجيهه وتأطيره بصيغ تفقده استقلاليته.
- التمويل المشروط: يُستخدم الدعم العمومي كأداة للتحكم في الجمعيات، وتُفرض شروط تمس استقلاليتها مثل توجيه المشاريع أو تحديد الأولويات.
- التهميش والتبخيس: تُهمَّش الجمعيات المستقلة عبر حرمانها من التمويل أو تشويه سمعتها بإبراز عجزها أو ربطها بأجندات مشبوهة، وتبخيس نضالاتها وفعالياتها إلا ما كان موسميًا منها، مع تفضيل الجمعيات الوهمية أو "النائمة" ذات الصلات والعلاقات الزبونية.
- التدجين والقوالب الجاهزة: تُفرض على الجمعيات نماذج تنظيمية وإدارية موحدة، مما يفقدها مرونتها ويحد من ابتكاراتها، ويحولها إلى أدوات تنفيذ بدلاً من فاعل إبداعي.
3- إشكاليات الدعم العمومي
في غياب الشفافية، يصعب الوصول إلى معلومات حول توزيع الدعم، مما يفتح الباب للفساد والمحسوبية، كما هو الحال بالنسبة للمراقبة إن وجدت، وهناك بعض الجمعيات تحصل على تمويل مباشر دون طلبات عروض، مما يضعف مبدأ المنافسة.
كما يمكن التأكيد على ضعف الأثر المجتمعي رغم ضخامة الأموال، لأن العديد من المشاريع لا تُنفذ، أو تنفذ خارج نطاق اختصاص الجمعيات، مثل التعليم الأولي والنقل المدرسي، وهي مهام حكومية.
ويُستخدم الدعم أحيانًا كأداة لتحقيق مكاسب انتخابية، حيث تنشأ جمعيات وهمية لاستقطاب الأصوات، وذلك بسبب غياب معايير دعم عادلة وفعّالة، على الرغم من بعض المبادرات التنظيمية للحد من ذلك.
والغرض من هذا هو الوصول الى مرحلة تقنين جاف للدعم والتمويل من أجل التأثير المباشر على التمدد والانتشار الذي لم يعد يصلح للخطط السياسية الحالية، وبعد التمكن من ابعاد الفاعلين الحقيقيين والرواد الذين اسسوا وراكموا تجارب تضيق على أولئك الذين يحاولون السير عكس الاتجاه الحقيقي للمجتمع ويطرحوا قيما غريبة عن القيم المؤسسة للعمل الجمعوي المدني الأصيل.
4- نحو عمل جمعوي مستقل
ان الاحتواء الناعم للعمل الجمعوي أخطر من المنع المباشر، لأنه يتحول إلى "قبول بالتبعية" بدلاً من الرفض الصريح، والسؤال ليس فقط كيف ندافع عن الجمعيات، بل كيف نحافظ على روح العمل المجتمعي التي ترفض أن تكون أداة طيعة، وأن يعود العمل الجمعوي إلى جوهره: خدمة المجتمع بدلاً من خدمة مصالح ضيقة لأن العمل الجمعوي ليس ترفًا، بل هو تنفّس المجتمع، ومحاولات تدجينه ليست إلا اعترافًا غير مباشر بقوته؛ والسؤال الأهم: هل نترك العمل الجمعوي يُختزل في مجرد ديكور، أم ندفع ثمن الحفاظ على استقلاليته؟ ولضمان استقلالية الجمعيات وتحقيق أثر مجتمعي إيجابي يجب أن نقوي أنفسنا بالشفافية وذلك بفرض نشر تفاصيل التمويل وآليات منحه عبر بوابات إلكترونية توضح المعايير المستعملة ومساطر المراجعة وبالمساءلة بإلزام الجمعيات بتقديم تقارير دورية عن استخدام الأموال والنتائج، والتزام المانحين بنشرها مع التركيز على الأثر، عبر توجيه الدعم للمشاريع ذات الأولوية المجتمعية المتفق حولها وتوضيح الآثار المنتظرة وإقامة نظام تقييم مستمر يربط التمويل بالتقييم الميداني لمشاريع الجمعيات وبرامجها، وليس فقط بالتنظيم الإداري.
ملاحظة قبل الختم
إن تبني خطة وطنية موحدة للمجتمع المدني من طرف الدولة يجب أن يتم بطريقة تشاركية حقيقية وشمولية وأفقية، بعيدة عن خضوعها لأهواء أو أولويات جهة معينة من الجهات المؤقتة أو القطاعية في مرحلة معينة، كما ينبغي ترك هامش لتكييف وتنزيل هذه الخطة من طرف باقي المكونات المعنية، كلٌّ حسب طبيعة عمله وخصوصياته، بما في ذلك القطاعات الوزارية المعنية، والفعاليات الجمعوية، وكذا الجماعات الترابية والمؤسسات المنتخبة ذات العلاقة وتلك التي تنشط بالعمل الاجتماعي والتنمية المحلية.