إن أي متابع للصراع الدولي يدرك مدى الأهمية الاستراتيجية التي يمثلها الشرق الأوسط لجميع القوى الدولية المتصارعة، علمًا بأن باقي مناطق التوتر، سواء في شرق أوروبا أو جنوب شرق آسيا أو إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تظل مفتوحة لاحتمالات تصاعد الصراعات فيها مستقبلًا، وذلك وفقًا لما ستحدده موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. ويتأكد هذا الأمر مجددًا من خلال إعلان إسرائيل والولايات المتحدة الحرب على إيران، ما يوضح أن المنطقة تشكل بؤرة مركزية للصراع الاستراتيجي الدولي.
أولًا، لما تحتويه هذه المنطقة من احتياطات عالمية ضخمة من موارد الطاقة، ومرور ممرات مائية تتحكم بما بين 20% إلى 30% من تجارة النفط العالمية.
ثانيًا، لوجود كيان زرعته القوى الغربية الاستعمارية قبل أن تتبناه أمريكا بشكل كامل بعد الحرب العالمية الثانية، وتتبوأ زعامة العالم الغربي. وقد أُريد لهذا الكيان أن يكون القوة الإقليمية الوحيدة المسيطرة بالوكالة على المنطقة، وهو ما سعت الولايات المتحدة إلى ترسيخه بعد انهيار جدار برلين، حين اختل التوازن العالمي لصالح الغرب الأطلسي.
سعت أمريكا إلى تحقيق هذا الهدف عبر وسائل متعددة، منها القوة الناعمة، والثورات الملونة، والحروب بالوكالة التي تغذي النزاعات المذهبية والطائفية لتفكيك الدول والشعوب المناهضة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ومنها كذلك التدخل العسكري المباشر، كما في العراق وليبيا وسوريا وغيرها.
وإن كان هذا النهج قد اتبعته كل من إسرائيل وأمريكا في مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، في ظل هيمنة أمريكية أحادية القطبية على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط التي اعتُبرت مجال نفوذ حصري لهما، ودون أي رادع دولي يُذكر، وفي خرق واضح للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة،
فهل ما زال هذا النهج ناجعًا في المرحلة الراهنة للحفاظ على الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة؟
خصوصًا مع صعود قوى إقليمية منافسة للوكيل الإسرائيلي مثل إيران، وتركيا، ومصر، وباكستان، وهي دول لا تقبل بإسرائيل كقوة مهيمنة أو وكيلاً عنها. كما أن هذه الدول بدأت تشابك مصالحها الاستراتيجية مع قوى عالمية مناهضة لنظام الأحادية القطبية، وتسعى لإرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب. ويظهر ذلك من خلال انخراطها في تكتلات جديدة مثل منظمة شنغهاي للتعاون والبريكس، أو من خلال شراكات أمنية وعسكرية، كما بين باكستان وإيران والصين وروسيا، ويتجلى ذلك في المناورات العسكرية الدورية المشتركة.
وعلى ضوء ما سبق، فإن الحرب التي تخوضها إسرائيل وأمريكا ضد إيران لا يمكن اختزالها في فشل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني السلمي، بل هي جزء من استراتيجية أمريكية-إسرائيلية شاملة تهدف إلى إخضاع إيران، التي باتت منافسًا حقيقيًا للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، خصوصًا بعد إخضاع معظم الدول العربية وإضعاف حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق.
كما أن هذه الحرب العدوانية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمثل حلقة في مشروع متكامل لبناء "شرق أوسط جديد" وفق التصور الأمريكي-الإسرائيلي، يهدف أولًا إلى توفير غطاء لحرب الإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية لتصفية القضية الفلسطينية، وثانيًا إلى إسقاط إحدى الركائز الأساسية التي تستند إليها حركات المقاومة في وجه الهيمنة.
ولا يخفى أن الدور قد يأتي لاحقًا على دول إقليمية أخرى مثل تركيا، التي يصطدم معها الكيان الإسرائيلي في عدة ملفات: السوري، والفلسطيني، والكردي. وقد بدأت مؤشرات هذا الصراع تظهر، كاختراق الطيران الإسرائيلي للأجواء التركية وتصدي أنقرة له، وازدياد الكشف عن شبكات التجسس الإسرائيلية داخل تركيا.
ولا يمكن إغفال الدور المصري، الذي شكّل تاريخيًا عقدة لإسرائيل، وترفض قيادته تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، فضلًا عن عدم تحقيق إسرائيل لتطبيع شامل معها رغم مرور عقود على توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وتبدو المخاوف الإسرائيلية مبررة بعد دخول مصر في شراكات اقتصادية وعسكرية مع الصين (في مجال التسليح الحديث) ومع روسيا (التي تعمل على إنشاء محطة نووية في مصر).
وبالعودة إلى الحرب الحالية، يمكن القول إن العدوان الأمريكي-الإسرائيلي على إيران يشكل نقطة مفصلية في الصراع الاستراتيجي الدولي، تسعى فيه الولايات المتحدة لإعادة فرض هيمنتها على منطقة كانت دومًا ضمن مجال نفوذها، بعد تراجع نفوذها في شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبي لصالح روسيا والصين.
وقد أُوكلت مهمة شن الحرب إلى الكيان الإسرائيلي، بضوء أخضر أمريكي ودعم مباشر. لكن الرد الإيراني المدمر والمفاجئ أظهر قدرات طهران، وأربك إسرائيل التي بدأت تطلب دعمًا أمريكيًا مباشرًا، وهو ما لمح إليه ترامب بتردد.
ويبدو أن واشنطن، نظرًا لعدم يقينها من حسم الحرب سريعًا إذا تدخلت مباشرة، ومن تداعياتها الإقليمية والدولية (خصوصًا إذا أقدمت إيران على إغلاق مضيق هرمز)، فضّلت التحفظ، لا سيما في ظل تلويح أطراف دولية صديقة لإيران (مثل كوريا الشمالية، والصين، وروسيا، وباكستان) بالتدخل ودعم طهران عسكريًا واستخباراتيًا.
وخشية أن يؤدي التدخل الأمريكي المباشر إلى تسريع تشكيل تحالف عسكري دفاعي مضاد تقوده هذه الدول، تحجم الولايات المتحدة عن الدخول المباشر في حرب مكلفة وغير مضمونة النتائج. وخصوصًا أن الرئيس ترامب يسوّق نفسه للشعب الأمريكي تحت شعار "أمريكا أولًا"، ويرفض التورط في حروب خارجية.
خلاصة القول:
إن الحرب الحالية بين إيران والكيان الإسرائيلي، ورغم الدمار الذي ألحقته بالجانبين، لن تُفضي إلى تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، بل ستُعيد تشكيل "قواعد اشتباك" جديدة. ويبدو أن لغة الدبلوماسية ستنتصر على لغة الحرب، بعد أن أثبت الطرفان قدرتهما على الردع المتبادل.
إن الحرب الحالية بين إيران والكيان الإسرائيلي، ورغم الدمار الذي ألحقته بالجانبين، لن تُفضي إلى تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، بل ستُعيد تشكيل "قواعد اشتباك" جديدة. ويبدو أن لغة الدبلوماسية ستنتصر على لغة الحرب، بعد أن أثبت الطرفان قدرتهما على الردع المتبادل.
كما أن التصريح الأخير لمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، الذي أكد فيه عدم وجود نية لدى إيران لامتلاك قنبلة نووية، وتصريح الناطقة باسم البيت الأبيض حول تأجيل التدخل الأمريكي لأسبوعين إضافيين، يشير إلى تراجع حدة التصعيد.
وفي النهاية، ستخرج إيران من هذه الحرب بانتصار معنوي، رغم الأضرار، إذ ألحق ردها بالكيان الإسرائيلي ضررًا غير مسبوق، مما يجعل نتنياهو وحكومته الخاسر الأكبر سياسيًا واستراتيجيًا، بعد أن ورّطوا "الشعب اليهودي" في حرب خاسرة بنيت على تقديرات خاطئة. كما أن من اتخذ مواقف عدائية تجاه إيران سيتحمل تبعات موقفه، فيما تخرج طهران أكثر صلابةً وقوة.