ما يحدث هذه الأيام من قصف إسرائيلي على ايران ورد طهران على ذلك دفاعا على نفسها .ليس مجرد مواجهة عسكرية أو استعراض قوة. بل انه كشف علني لهشاشة إيرانية داخلية، ونقطة تحوّل في الصراع الإقليمي.
ففي قلب طهران، وسط دوائر الدولة العليا، استهدفت إسرائيل قادة وعلماء كانوا مجتمعين في جلسة أمنية رفيعة، في منطقة يُفترض أنها غير قابلة للاختراق. وكما هو معروف كان قد سبق هذا الهجوم الأخير عمليات سابقة واغتيالات محددة. منها لا كلها :
• قاسم سليماني، رجل الظل والنفوذ، صُفي في بغداد.
• إسماعيل هنية، قُتل في فراشه وفي إقامة محروسة في ضيافة طهران.
• حسن نصر الله، قُتل في الجنوب، معقل الحزب والمقاومة، وأحد أذرع إيران العسكرية.
وغيرهم كثير…..
هذه الضربات في تقديري لا تشير إلى براعة إسرائيلية في العمل العسكري والاستخباراتي بالضرورة ، بل تفتح الباب لتساؤل أعمق ،هل الاختراق جاء فقط من الخارج؟ أم من الداخل أيضًا؟
ففي نظام مغلق، كالنظام الإيراني حيث يُسحق الإصلاح، ويُستبعد التغيير، ويُقمع فيه حتى النقد الصامت، يتحول الداخل إلى بيئة حاضنة للتفكك… وربما للخيانة كذلك.
ان إيران ليست دولة هامشية أو ناشئة. إنها وريثة حضارة فارسية تمتد لآلاف السنين، ومجتمع متعلم، متعدد، مثقف، ضارب في الجذور الروحية والفكرية.
الشعب الإيراني أثبت، مرارًا، حسه العالي بالكرامة والحرية، وخرج إلى الشارع بمئات الآلاف في محطات فارقة، دفاعًا عن حقه في التعبير والإصلاح ولما لا التغيير .
لكن المفارقة الصارخة أن هذا الشعب الراقي يُدار منذ عقود بنظام ديني شمولي، يتعامل مع السياسة باعتبارها امتدادًا للعقيدة، ومع المواطن باعتباره تابعًا لا شريكًا.
منذ أن استولى الإسلام السياسي على الحكم في إيران عام 1979، مع آية الله الخميني، اتجهت البلاد نحو نمط حكم عقائدي مغلق، يُجرّم المعارضة، ويصادر الحريات، ويحتكر تفسير الدين والدولة معًا.
حتى ان كل مشروع إصلاحي للدولة أُجهض بشكل منهجي بما فيه المحاولات من داخل نفس المنظومة العقائدية والسياسية :
• الرئيس محمد خاتمي، الذي حمل مشروعًا لإعادة التوازن بين الدولة والمجتمع، حوصِر وخُنق إعلاميًا ومؤسساتيًا، إلى أن أصبح مجرد رمز منزوع الفعل.
• التيار الإصلاحي داخل البرلمان، تعرّض للإقصاء، والمنع من الترشح، وحُرم من أبسط آليات التأثير في القرار السياسي.
• الحراك الأخضر عام 2009، وُوجه بالقمع الدموي، وسُجن رموزه لأكثر من عقد دون محاكمة عادلة.
• الاحتجاجات المتكررة منذ 2017، خاصة في 2022 بعد مقتل مهسا أميني، أثبتت أن النظام يتعامل مع كل صوت معارض بوصفه تهديدًا وجوديًا.
• المثقفون والطلبة والفنانون، وجدوا أنفسهم إما في المنافي، أو السجون، أو تحت سيف الرقابة والملاحقة القضائية.
لم يُترك للشعب الإيراني سوى الطاعة أو الصمت أو الهروب. لكن يبدو أن بعضهم، بما فيهم جزء من نخبة النظام ، اختارت طريقًا رابعًا: الانتقام… لا بالرصاص، بل بالمعلومة، بالتسريب، بالتعاون مع العدو.
فالثابت في التاريخ ان الداخل بطبعه لا يحمي من لا يصلحه، بل يفتح فيه شقوقًا، يتسلل منها الآخرون.
وبذلك تصبح الخيانة ليست فعلاً آثمًا في وعي أصحابها. بل صرخة ضد القمع، وانتقامًا من نظام العمامات الذي أغلق كل النوافذ. والتاريخ يعرف هذا النمط جيدًا:
• العباسيون في نهايتهم تحالف بعض قادتهم مع المغول ضد مركز الخلافة.
• ملوك الطوائف في الأندلس ،فتحوا المدن أمام الإسبان بعد أن اشتد صراعهم مع الخلافة.
• فرنسا إبان الاحتلال النازي نسق الكثير مع البريطانيين والأمريكيين ضد حكومة فيشي التي تواطأت مع القهر.
حين ينهار الأمل في الإصلاح، تنشأ ثغرات أمنية التي لا تُقفل بالقوة، بل بالثقة.
وبالتالي فاسرائيل تخترق بالاحتقان الداخلي، وبوجود من يُسهّل، من يُبلّغ، من يتواطأ… ولو صامتا .
ولعل دقة إسرائيل في هذه السلسلة من العمليات ليست درسًا استخباراتيًا، فقط بل مؤشر على مرض داخلي عميق أصاب النظام الإيراني الذي كلما تمادى في طمس التعدد، وإسكات المختلف، وتجريم التفكير، كلما اتسعت الثغرات، وازدادت الطعنات.
فالاختراقات لا تأتي من السماء، بل من صدورٍ خنقها استبداد حكام طهران .