لم يعد الحديث عن مواجهة عسكرية بين إيران وإسرائيل مجرد احتمال نظري ضمن سيناريوهات مراكز التفكير الاستراتيجي، بل تحول إلى واقع مرير تتسارع أحداثه وتتكثف مؤشراته في الجغرافيا المشتعلة للشرق الأوسط، وسط دوامة من التحولات المتسارعة التي تضرب قلب النظام الدولي. وما يجري اليوم من تبادل للضربات، وتحشيد للأذرع، واستدعاء للتاريخ والجغرافيا والعقيدة، ينذر بأننا أمام طور جديد من النزاع، لا يشبه ما عرفته المنطقة من قبل، ويصعب حصر تداعياته في النطاق العسكري أو الأمني المحض.
إن انزلاق إيران وإسرائيل إلى حرب شاملة، في ظل غياب قواعد اشتباك واضحة، وتآكل دور المؤسسات الدولية، لا يمكن فهمه أو تقييمه خارج السياق العالمي الأوسع، الذي يتسم بالسيولة الجيوسياسية، وتصاعد التنافس على النفوذ والموارد، وتفكك السرديات الكبرى التي حكمت العالم منذ نهاية الحرب الباردة. من هذا المنطلق، فإن تحليل انعكاسات هذه الحرب لا ينبغي أن يقتصر على مقاربة آنية للأحداث، بل يستلزم قراءة استراتيجية متعددة الأبعاد، تربط المحلي بالإقليمي، وتستحضر التداخل بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة، بما يليق بجدية اللحظة التاريخية.
لقد بات مؤكدا أن اندلاع حرب مفتوحة بين طهران وتل أبيب سيفتح جبهة ميدانية متفجرة في عدة دول مترابطة عبر شبكات النفوذ والتحالفات، وسيقلب موازين الطاقة وسلاسل الإمداد، وسيفرض واقعا اقتصاديا جديدا قوامه الندرة والاحتكار والاضطراب. وفي هذا المشهد، سيتأثر النظام الاقتصادي العالمي بصورة مباشرة؛ حيث سيرتفع سعر النفط إلى مستويات غير مسبوقة، وستصاب الأسواق بحالة هلع، وسيتعرض الأمن الغذائي لضغوط هائلة، خاصة في البلدان التي تعتمد على الاستيراد، وتفتقر لهوامش السيادة الإنتاجية. وستجد البنوك المركزية نفسها بين فكي التضخم والركود، في دورة اقتصادية خانقة تعيد للأذهان أزمات كبرى مثل أزمة 1973، حين أدى الحظر النفطي العربي إلى شل الاقتصاديات الغربية، وأجبر القوى الكبرى على مراجعة سياساتها الطاقية والتحالفية لعقود لاحقة.
إن ما يضاعف من خطورة هذا المسار ليس فقط الجغرافيا الملتهبة للصراع، بل تشابكه مع أزمات كامنة في النظام الدولي ذاته : أزمة الشرعية في المؤسسات متعددة الأطراف، الخلافات المستحكمة بين القوى الكبرى، والتراجع الواضح في فعالية النظام الاقتصادي الليبرالي أمام الأزمات المركبة. كل هذا يجعل من الحرب بين إيران وإسرائيل ليس نزاعا إقليميا بالمعنى الضيق، بل متغيرا نوعيا يعيد تشكيل السياق الدولي برمته، ويفرض إعادة تعريف التحالفات، ومراجعة معايير التموقع الاستراتيجي، وطرح أسئلة عميقة حول صلابة الدول أمام الضغوط المفاجئة والمعقدة.
وبالنسبة للمغرب، فإن موقعه الجيوسياسي، وصلاته الحيوية بالأسواق الدولية، وانفتاحه الاستراتيجي على محيطه الأطلسي والأوروبي، تضعه أمام تحديات مضاعفة. فالمغرب، وهو يستورد جزءا كبيرا من حاجياته الطاقية والغذائية، سيكون معرضا بشكل مباشر لانعكاسات تقلب الأسعار العالمية، وما يترتب عليها من ارتفاع في كلفة المعيشة، وتنامي الاحتقان الاجتماعي، وزيادة الضغط على شبكات الدعم العمومي. كما أن علاقته التاريخية المعقدة بالشرق الأوسط، وارتباطه بتحالفات أمنية واقتصادية مع دول الخليج، قد تفرض عليه تبني مواقف دقيقة ومتزنة، في سياق دولي سريع التقلب.
وتتجلى الخطورة في أن هذه الحرب، إن توسعت وتطاول أمدها، قد تنتج اضطرابات في مستويات متعددة؛ من اختلال سلاسل التوريد إلى صعوبة الوصول إلى الأسواق، ومن تراجع تحويلات الجالية المغربية المقيمة في الخارج إلى احتمال تضاعف الطلب على الإنفاق الاجتماعي في الداخل. كما أن انخراط بعض القوى الكبرى في هذا النزاع قد يؤدي إلى حالة من الاستقطاب الدولي تحاصر الدول المتوسطة الحجم وتجعلها مضطرة للموازنة الدقيقة بين الحفاظ على استقلالية قرارها وبين عدم الخروج عن منطق الاصطفافات الكبرى.
ولعل ما يستدعي التأمل اليوم، هو أن العالم يقف مرة أخرى على عتبة التحول؛ لا بوصفه انتقالا هادئا في موازين القوى، بل بوصفه ارتجاجا عميقا في بنية النظام الدولي نفسه. فما يشهده الشرق الأوسط من تصعيد، قد لا يظل حبيس الإقليم، بل قد يتحول إلى اختبار كوني لمدى قدرة الإنسانية على تجنب سقوط حر في متاهات النزاع، والانهيار، والتوحش الجيوسياسي. وإذا كانت الحروب القديمة تعيد رسم الخرائط، فإن الحروب الحديثة تعيد صياغة العقول والأولويات والمعايير، في عالم لم يعد يحتمل مزيدا من المغامرة، ولا مزيدا من العمى الاستراتيجي. وإن زمن الحياد الساذج قد ولى، وحان وقت التفكير الاستباقي بوصفه ضرورة وجودية لا ترفا تحليليا.
ياسيــن كحلـي /مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية