زيف الأسعار" ليس دعوة إلى التشاؤم، بل محاولة صادقة لقراءة الواقع المعيش في الأسواق. فكثيرًا ما تغيب عن النقاش العمومي قضايا تحظى باهتمام الرأي العام، وتُستبعد أيضًا من التداول في الحقل الإعلامي الرسمي، الذي يفترض به أن يصغي لصوت المواطن المعبر عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع. ومن بين هذه القضايا، ظاهرة الارتفاع الحاد للأسعار، التي أصبحت حديث المجتمع.
من خلال المتابعة المنتظمة لوضعية الأسعار خلال السنوات الأخيرة، يتبيّن بوضوح تفاقم التقلبات المستمرة وغير المسبوقة، حدّ التغول، إذ بلغت الأسعار مستويات قياسية طالت مختلف المواد الاستهلاكية والخدمات، وامتدت لتشمل كل مناحي الحياة. ويبدو أن هذه الأسعار لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل، بل إن لهيبها لن يخمد، وقد يزداد اشتعالًا حتى في حالات وفرة المنتجات، مما يُجبر المواطن على التكيّف مع هذه المعدلات المرتفعة.
ولنا في الانخفاض الذي عرفته أسعار المحروقات خلال الأشهر الأخيرة (الغازوال من 15 و16 درهمًا إلى 10.50 دراهم، والبنزين من 14 ثم 15 إلى 16 ثم 17، وصولًا إلى 12.60 درهمًا)، خير دليل؛ حيث لم ينعكس هذا التراجع على أسعار باقي المواد التي بقيت عند مستوياتها القياسية، مما يُضعف مقولة ارتباط الأسعار بارتفاع أسعار المحروقات.
تُواصل الحكومة، في خطابها، تبرير استمرار وتيرة ارتفاع الأسعار بالأزمة العالمية، وتداعيات الحروب، وارتفاع أسعار البترول عالميًا، وانعكاسات جائحة كورونا، وسنوات الجفاف المتتالية، وغيرها من المبررات، التي، وإن كانت واقعية وتستحق الذكر، إلا أن اتخاذها شماعة دائمة يفتقر إلى الموضوعية ولا يبرر استمرار نزيف الأسعار.
سبق للمندوب السابق للمندوبية السامية للتخطيط، السيد أحمد الحليمي، أن صرّح سنة 2023: "التضخم أصبح عاملاً هيكليًا في اقتصادنا وعلينا التعايش معه، ويُعزى ذلك إلى نقص العرض في السوق المحلي"، مضيفًا أن "التضخم المرتفع لا يعود إلى أسعار السلع الأساسية في الأسواق الدولية، بل يُعزى أساسًا إلى ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية المحلية"، ما يعني أن التضخم داخلي وغير مستورد، وبات مؤشرًا هيكليًا مقلقًا يتطلب الحذر.
عند الحديث عن الأسعار، لا يصح حصر الموضوع في المواد الغذائية فحسب، بل يشمل كذلك كل السلع والخدمات الأساسية التي تشكّل الاستهلاك اليومي للأسر، مثل السكن، النقل، الاتصالات، الصحة، والتعليم...
الوضعية الراهنة للأسعار تستدعي قراءة موضوعية، هادئة، معمقة، وواقعية، للوقوف على حيثيات هذا الارتفاع وتداعياته، وبحث الآليات الكفيلة بحماية المستهلك، وضمان استقرار السوق، وتأمين التماسك الاجتماعي.
بعض ملامح هذا الارتفاع يمكن تلخيصها في ما يلي:
-
مسؤولية المواطن: لا شك أن للمستهلك دورًا مباشرًا في كبح أو تحفيز الأسعار. فقد أظهرت التجارب أن ارتفاع الأسعار لا ينتج فقط عن المضاربة أو قلة العرض أو جشع بعض التجار، بل أيضًا عن سلوك استهلاكي غير رشيد، يتمثل في الإقبال الكثيف على الشراء رغم الغلاء، دون تقنين أو ضبط للاستهلاك، ما يفضي إلى التبذير والهدر الغذائي.
-
مثال عملي: تهافت بعض المواطنين، بمناسبة عيد الأضحى، على شراء اللحوم وأحشاء الغنم، أو ما يُعرف بـ"الدَّوّارة"، بكميات كبيرة، خاصة بعد إلغاء شعيرة النحر، أسهم في ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية (150 درهمًا للكيلوغرام، و"الدَّوّارة" من 300 إلى 900 درهم). كما ساعد هذا السلوك على انتشار الذبيحة السرية، رغم مخاطرها الصحية.
-
تراجع الأسعار بعد الإهابة الملكية: عقب دعوة صاحب الجلالة إلى الامتناع عن ذبح الأضاحي حفاظًا على القطيع الوطني، لوحظ انخفاض في أسعار اللحوم إلى ما بين 80 و100 درهم، مقارنة بمستوياتها السابقة (120 إلى 135 درهمًا). لكن التهافت على الشراء أجهض هذا التحسن وشجع بعض التجار على استغلال الوضع لرفع الأسعار من جديد.
-
إخفاق "مخطط المغرب الأخضر": رغم الرهان الكبير على المخطط منذ 2008 لتأمين الأمن الغذائي، إلا أن التركيز على التصدير بدل تلبية السوق الداخلية، وسوء تدبير الموارد، وغياب الشفافية، أدت إلى فشل في تحقيق التوازن المطلوب، مما أفرز نقصًا في العرض وارتفاعًا في الأسعار. ولجوء الحكومة إلى دعم الاستيراد، رغم تكلفته الباهظة (13 مليار درهم)، لم يفلح في خفض الأسعار، ما يعكس فسادًا واضحًا في تدبير الخطة.
-
هدر المال العام: ما زالت بعض البرامج والصفقات العمومية تشهد اختلالات وسوء تدبير وفسادًا ماليًا، مما ينعكس على الخدمات ويفاقم ارتفاع الأسعار.
-
تنامي الصادرات الغذائية والبحرية: رغم أهمية هذه الصادرات في دعم الاقتصاد، إلا أن استنزاف الموارد المائية، خاصة في ظل الجفاف، يؤثر سلبًا على السوق الداخلية ويرفع أسعار الخضر والفواكه والأسماك.
-
ضعف تنظيم سلاسل التوزيع: استمرار الفوضى في مسالك التوزيع، وهيمنة الوسطاء والمضاربين، يفاقمان من اختلالات السوق ويُسهمان في رفع الأسعار.
-
غياب المنافسة: غياب الشفافية والمنافسة الحقيقية في السوق، وانتشار الريع والاحتكار، وانحراف حرية الأسعار إلى فوضى، كلها عوامل أساسية في تغوّل الأسعار.
-
العبء الضريبي والجمركي: النسب المرتفعة لبعض الرسوم لا تراعي طبيعة السلع، مما يفاقم كلفة المعيشة ويضغط على القدرة الشرائية.
-
الفساد وتبييض الأموال: انتشار الفساد والرشوة أدى إلى استخدام الأموال غير المشروعة في قطاعات مثل العقار، ما ساهم في ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم.
-
التحضيرات لكأس العالم وكأس إفريقيا: رغم كون هذه المناسبات تمثل فرصًا للتنمية، إلا أن بعض مظاهر الاستغلال بدأت تطفو، مع تسجيل زيادات غير مبررة في أسعار العقار، الإيواء، البناء، والخدمات، خاصة في المدن المستضيفة، وهو ما ينذر باستمرار موجة الغلاء.
-
استغلال المواسم والمناسبات: ما نشهده خلال رمضان، العيد، موسم الحج، والعطلة الصيفية من زيادات فاحشة في الأسعار والخدمات، هو انعكاس لفوضى الأسواق وغياب الرقابة.
لا شك أن اختلالات الأسعار ومسارات السوق مسؤولية جماعية. غير أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الحكومة، والبرلمان، والسلطات القضائية، والمجالس الدستورية والرقابية، وجمعيات حماية المستهلك، الذين ينبغي عليهم التحرك الجاد والفعال لتصحيح الأوضاع ومواجهة تغوّل الأسعار ومكافحة الفساد.
يتعيّن على الحكومة إعداد استراتيجية واضحة ومتكاملة تُقدّم حلولًا واقعية وعاجلة، تضع المواطن في صلب اهتماماتها، وتحرص على تحسين ظروف عيشه، بعيدًا عن ممارسات الماضي.
إن الطفرة الاقتصادية التي يعيشها المغرب في مجالات البنية التحتية، والصناعة، والطاقات المتجددة، والتحول الرقمي، يجب أن تُترجم إلى أثر ملموس في حياة المواطن، من خلال أسواق متوازنة، وأسعار منضبطة، وعيش كريم.
عبد الحليم بنمبارك، باحث مختص في شؤون ضبط ومراقبة السوق