Tuesday 3 June 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: "تسارع التاريخ" ودلالات الماضي

عبد السلام بنعبد العالي: "تسارع التاريخ" ودلالات الماضي عبد السلام بنعبد العالي

عرف مفهوم "تسارع التاريخ" الظهور في بعض المجتمعات الغربية أواخر القرن الثامن عشر، مواكبا لفترة الثورة الفرنسية. يرتبط هذا المفهوم إذن بالأفق الثوري، أي "الحدث المفجر" للحداثة السياسية، ذلك الحدث الذي جسد روبسبيير زمنيته السياسية الجديدة عندما صرح لأعضاء المؤتمر الوطني سنة 1793 أن عليهم واجب "تسريع" الثورة.

 

وهكذا، كانت الثورات، وزيادة وتيرة الحروب والأزمات، تفهم، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر على أنها شكل من أشكال "التسريع" الاجتماعي والسياسي، أي الانتقال بقفزات وتحولات فجائية نحو شكل من المجتمع جديد. في هذا المعنى أخذ المفهوم معنى إيجابيا عند ظهوره.

 

دوران رأس المال

سيجد هذا المفهوم دعامة أخرى على إثر التسارع التقني والاقتصادي الذي بدأ مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تلك الثورة التي تميزت بـتحسن متواصل تحقق في عدد لا يحصى من الإنجازات الجزئية التي توالت في فترات زمنية تزداد قصرا، ابتداء من الآلة البخارية وصولا إلى تقنية الجيل الخامس (5G)، فأدت إلى تسارع تطور وسائل النقل والإنتاج والاتصال، مع ما كان وراءها من اكتشافات علمية متلاحقة.

 

تمخض عن ذلك أنه على مدار القرنين الماضيين، أصبحت وتيرة دوران رأس المال، التي يجب أن تتسارع باستمرار لزيادة الأرباح، العامل الذي يفرض إيقاعه الذي ما ينفك يتسارع.

 

بين المفكر الألماني هارتموت روزا بوضوح أنه على عكس المجتمعات التقليدية، التي تتميز بالاستقرار البنيوي، فإن المجتمعات الحديثة غير مستقرة البنيات، ولا يمكنها الاستمرار إلا بثمن التسارع المستمر. لقد أصبحنا نجد صعوبة كبيرة في مواكبة هذا الإيقاع لدرجة أنه قريبا، سنحتاج إلى "زيادة" قدراتنا، أي إلى ما أصبح يدعى الإنسان «ممدد القدرات» L’homme augmenté، ليس لتحسين حياتنا، بل لنتمكن فقط من البقاء.

 

هذا ما يعبر عنه زيغمونت باومان بكون الحداثة لم تعد "صلبة" (كما في العصر الصناعي حيث كانت المؤسسات والهويات مستقرة نسبيا)، بل أصبحت "سائلة" تتميز بعدم الاستقرار والتغير المستمر، وزوال المرجعيات الثابتة (مثل الأيديولوجيات الراسخة أو الوظائف المستقرة)، وفقدان الزمن التاريخي مع طغيان الحاضر واللحظية، وتحول العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى أنماط استهلاكية سريعة التبدل.

 

تزاحم

وهكذا، أصبحنا نعيش أحداثا ما تفتأ تتزاحم. توفر لنا الوسائط الجديدة الملاحقة الآنية لهذه الأحداث. هذا الإحساس بالتسارع يجعلنا سجيني حاضر مضغوط. فلم يعد حاضرنا مصدر سعادتنا، كما كان يقول غوته، وإنما أصبح مصدر قلق وتخوف. أصبحنا نشعر أننا سجناء الحاضر، وأن أحاسيسنا تفوقنا سرعة، ولا تسمح لنا لا أن نلتفت نحو الماضي، ولا أن نرتمي في المستقبل. نجد أنفسنا أمام حاضر يجثم علينا بثقله، مما يجعلنا نحس أننا، مهما فعلنا، متخلفون عن ركب الأحداث.

 

مارتن هايدغر

ضد النظرة الأحادية لتسارع الزمن، يدافع البعض عن فكرة "التعدد الزمني" التي تميز الحداثة. في تسعينات القرن الماضي، كان الراحل عبد الكبير الخطيبي تعرض لهذه المسألة في مقال بعنوان "أربعة اقتراحات في الزمن التقني" (1993) حاول فيه أن يرسم "الخارطة الثقافية العالمية" فقسم الثقافات إلى: الثقافات التوسعية التي تقود التقنية وتسارع الزمن (كما عند بول فيريليو)، ثم الثقافات البطيئة التي تعاني من عدم التوازن في التنمية. فالثقافات المنتظرة التي تعيش الزمن بوصفه حاضرا أبديا وتعاني من النوستالجيا والاكتئاب، وأخيرا الثقافات الباقية التي تظل صامدة رغم الدمار الذي يهددها.

 

ما يعيب هذه الخارطة في نظرنا هو كونها ليست خارطة تتباين ألوانها حسب المناطق الجغرافية، بقدر ما هي خارطة أنطولوجية إن صح التعبير. إن كان لنا أن نخالف المفكر المغربي هنا وأن ننتقد نمذجته هذه، فإننا نرى أن هذه الأنماط من الثقافات تكاد توجد في كل ثقافة. وما ذلك إلا لأن كل ثقافة لا تعيش زمانية طاهرة. كل ثقافة تعيش تعددية زمنية. ففي صميم كل تجربة إنسانية يكمن حنين إلى الزمن بوصفه حاضرا أبديا، وهو حنين يتشابك مع رواية الأساطير، سواء أكانت تلك الرواية تشير إلى سجل الزمن الطبيعي أو الزمن الإنساني، ويبدو أن هذه الرواية سعت دائما إلى إقامة شعائر لهذا الحنين ومنحه شكلا معينا.

 

الساخن والبارد

ومع ذلك، فهناك من الثقافات ما يصح أن ننعته بالثقافة "الساخنة"، كما أن منها ما هي "باردة" لا تستجيب الاستجابة نفسها لما يعرفه التاريخ من حراك. لكن مهما كانت درجة حرارة الثقافة فلا مفر لها من أن تتعرض اليوم لمفعول الزمن التقني الذي هو زمن كوكبي يتسلط على الثقافات جميعها فيحدد علاقة أنماط الزمان فيما بينها.

 

لذا، يظهر أنه، رغم كون "طغيان الحاضر" إطارا خصبا لفهم الحداثة، فإنه لا يستنفد كل أشكال العلاقة مع الزمن في المجتمعات المعاصرة. فهو ينافس تجارب أخرى للزمن، مثل الاهتمام بالماضي الذي نلاحظه اليوم من خلال جهود الحفاظ على التراث وتطبيقات واجب التذكر، وكذلك الاهتمام بالمستقبل الذي يظهر في المطالب السياسية لتحقيق التقدم الاجتماعي، وأيضا في الانشغالات المتزايدة بمشكلة الاحتباس الحراري.

 

هذا ما يفسر الاهتمام المستمر بالماضي في نمط التاريخية الحديثة رغم ما تعرفه من هيمنة للحاضر. يكفي أن نشير هنا الى ما أولاه مفكرون أمثال نيتشه وماركس وهايدغر الى الماضي. وفقا لهؤلاء المفكرين، وبطرق مختلفة، تبقى التاريخية معلمة الحياة والعمل، فهم يعملون على إنقاذ هذا الماضي بإعطائه دلالات متجددة، بعيدا من كل تمجيد رخيص له، ومن الحفاظ على التقليد، وإنما سعيا وراء تملكه.

 

تسارع شنيع

كان نيتشه تكلم عما سماه "التسارع الشنيع للحياة ". ففي كتابه "إنساني، مفرط في إنسانيته" الذي ظهر عام 1878، يشير إلى التطورات الاقتصادية والتكنولوجية في عصره، مثل الصحافة، والآلة، والسكك الحديد، والتلغراف، هذه التطورات أحدثت تسارعا في الحياة الاجتماعية ينعته نيتشه بأنه "تسارع شنيع" لأنه يؤدي إلى تقويض الحياة التأملية والقضاء على الثقافة ، لصالح عبادة العمل والانشغال الذي يميز الحداثة بإيقاعها السريع للغاية. في هذا السياق، يتراجع دور العالم والمفكر لصالح "رجل الفعل"، أي السياسي، أو رجل الأعمال الذي يعيش وعينه على نشرات البورصة. نقرأ في الكتاب الآنف الذكر: "إن التسارع الهائل للحياة يعوّد العقل والبصر على رؤية وحكم جزئيين وزائفين، ويصبح الجميع مثل المسافرين الذين يتعرفون الى البلدان والناس دون مغادرة خط السكك الحديد". وكان نيتشه تنبأ بانتقاداته لتدفق المعلومات الذي لا يتيح الوقت لهضمها أو استيعابها كي يستخلص أن العلاقة العملية مع الماضي ينبغي أن تهدف إلى تغذية "غريزة كلاسيكية" يمكن أن تعمل كدواء مضاد لـ"التسارع الشنيع للحياة".

 

يظهر إذن أن المجتمعات الحديثة صمدت جزئيا أمام عمليات التسارع، وأن علاقتها بالماضي متعددة الأوجه. فبجانب فقدان التقاليد التي صاحبت نهاية المجتمعات الزراعية، ما زلنا نشهد اهتماما حيويا بالتاريخ كمصدر للعبر والدروس. كما أن المفهوم القديم للتاريخ كـ"معلم للحياة" لم يختف ولكنه تحول مع الحداثة. يتجلى ذلك، على سبيل المثل، في القرن التاسع عشر مع نيتشه كما رأينا، فقد أبرز في الجزء الثاني من "كتابات في غير أوانها"، "سلبيات" التاريخ و"ضرره للحياة" كما يقول، لكنه أشار أيضا إلى "فائدته" للحياة، كما أن ذلك يتجلى في القرن العشرين مع فالتر بنيامين، الذي أكد أنه لا يمكن أي نضال من أجل المستقبل أن يتجاهل ذاكرة الماضي، لأن "وجه ملاك التاريخ ملتفت إلى خلف" كما كتب. وقبل هذين الفيلسوفين معا، نلمس الأمر عند ماركس ربما بشكل أكثر وضوحا.

 

نذكر عبارة ماركس في "ثامن عشر برومير لوي بونابارت": "تراث كل الأجيال الماضية يثقل كابوسا على أدمغة الأحياء"، يظهر أن الأفق الزمني لدى ماركس يقرأ غالبا كأفق "مستقبل قريب" ثوري، ومع ذلك، فإننا نجد في كتاباته أيضا نسخة حديثة من مفهوم "التاريخ مصدرا للعب"، حيث يقدم الماضي أمثلة على النضالات التي يمكن أن تكون مصدر استلهام. يستدعي الثوريون الماضي لخلق شيء غير مسبوق، إذ "يعتمدون على سوابق لتحقيق أفعال لا سوابق لها". بالنسبة إلى ماركس، يتعلق الأمر بالانتقال من ماض مفروض وكابوسي إلى ماض مختار.

 

ولعل المفكر الذي حاول أن يعيد إلى الماضي قوته وفعله في الحاضر هو صاحب "الكينونة والزمان". كتب هايدغر في "تجربة الفكر": "يظل الأقدم في كل ما هو قديم يلاحقنا، ولا بد أن يدركنا". تفيد هذه الملاحقة مفهوما معينا عن التاريخ لا ينحل إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية متسارعة، وإنما يغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر يمتد بعيدا نحو الماضي. فلن ينحل التاريخ، مهما كان تسارعه، إلى مجرد حركة صيرورة تقدمية يتجاوز فيها اللاحق السابق، وإنما سيغدو، على العكس من ذلك، حركة حاضر لا يكون تذكرا فحسب، وإنما تنبؤا واستقبالا. هو إذن حاضر منفلت يتغذى من الماضي، إلا أنه لا يفتأ ينفجر نحو المستقبل.

عن: مجلة المجلة