إياك أن تصبح غرامشيا في مجتمع أضحى فيه الإعوجاج معيارًا للاستقامة، حيث يُحتفى بالخضوع أكثر مما يُحتفى بالمقاومة، ويُكافأ الصمت حين يكون الكلام خطرًا، وتُهمَّش الأسئلة الحارقة لأنها تُحرّك ما يُراد له أن يظل ساكنًا. كيف لغرامشي أن يُفهم في زمن يتم فيه تطويع المثقف ليغدو بوقًا لأجندات ضيقة لا ضميرًا حيا للأمة؟ كيف تُستوعب نداءاته للتحالف مع الطبقات المهمشة في مجتمعات تحتقر المهمشين وتنظر إليهم كأعباء لا كمصادر للمعرفة والمساهمة في البناء؟.
وإياك أن تصير فوكويا (Faucauldian) أكثر من اللازم في مجتمع صارت فيه سلطة الجهل مقدّمة على سلطة المعرفة، حيث يُختزل التعليم إلى امتحانات يصير فيها الغش حقا، ويُختزل التفكير إلى حفظ 'ببغاوي' (parot like')، وتُختزل الحرية إلى تبعية مقنّعة.
فوكو الذي فكّك بنية السلطة ورأى المعرفة كأداة تحكم، لم يكن يتخيّل أن يأتي زمن تصبح فيه الجهالة آلية من آليات السيطرة، وأن يصبح الإعلام، لا المؤسسات العقابية، هو الحارس الجديد لانضباط الأذهان.
إياك أن تكون ماركسيا في نظام يُفرغ الماركسية من جوهرها، ويحوّلها إلى شعارات جوفاء تزيّن اللافتات دون أن تغيّر شيئًا من بنيات الاستغلال. ففي مجتمعات تغدو فيها "العدالة الإجتماعية" مجرد بند في الدستور، ويُغتال العامل بالسياسات قبل أن يُغتال بالإهمال، يصعب الحديث عن البروليتاريا بمنطق ولغة اليوتوبيا.
وإياك أن تصير باولو فريريًا ( Freirean) في مؤسسات تُحوّل المدرسة إلى أداة ترويض لا إلى وسيلة تحرير، وفي مدارس تُعدّ التلميذ ليطيع لا ليبدع. فريري، حين كتب تعليم المقهورين ( pedagogy of the oppressed) ، لم يكن يقدم وصفة تعليمية، بل كان يُطلق صرخة في وجه نظام يصادر وعي الإنسان باسم النظام. أراد تعليمًا يجعل الفلاح والمُهمّش قادرا على التفكير في ذاته وعالمه. فهل يُعقل أن نكون فريريين في زمن يُعاقب فيه الطالب إذا تساءل، ويُعزل المعلم إذا فكّر، وتُلغى حصص الفلسفة لأنها "تُزعج" الانضباط الذهني؟.
في هذا الزمن، حيث تُقمع الحرية باسم الايديولوجيا، وتُحاصر الحقيقة باسم "الرأي العام"، ويُغتال الحلم، عن سبق إصرار وترصد، كل يوم في طوابير الانتظار، يصبح الفيلسوف خطرًا، والمثقف تهمة، والكتاب جريمة.
لكن، ورغم كل هذا…
إياك أن تتوقف عن الحلم ما دمت قادرا عليه. إياك أن تتخلى عن "غرامشي" و "فوكو" و "فريري". إياك أن تستسلم لمنطق الهزيمة. فكر، حتى وإن ضاقت بك الدنيا رغم رحابتها. قاوم، ولو بالكلمة. اسأل، حتى وإن حوصرت بالإجابات الجاهزة.
فربما، في لحظة ما، ستنبت في هذا الخراب بذور لا يعرف أحد كيف نمَتْ، لكنها بالتأكيد ستنمو.