الخطاب الديني المُتفتِّح le discours religieux épanoui هو الخطاب الذي يكون فيه العقلُ حاضرا، أي هو الخطاب الذي يكون فيه العقلُ مُشغلا، أي يكون مُنفتِحا على آفاق جديدة، وبالأخص، يُشغَّل فيه الفكرُ النقدي la pensée ou l'esprit critique، عندما يتعلَّق الأمرُ بالمُعتقدات les croyances الخارجة عن الثوابت الدينية. ولا أقصد، على الإطلاق، من الخطاب الديني المُتفتِّح، الخطاب الذي لا يحترم الحياءَ الفردي أو الجماعي، أو لا يحترم حريةَ الغير في التعبير عن آرائه… أقصد الخطابَ الذي يبقى في حدود اللياقة واللباقة، وغير جارحٍ ولا مُحبِط.
في هذه الحالة، الخطاب الديني المُتفتِّح هو الخطاب الذي يتبنَّى كثيراً من القِيم الإنسانية السامية كالتَّسامح la tolérance والتَّعاطف l'empathie وتَفهُّم الآخرين حتى في حالة الاختلاف معهم.
وعندما أتحدَّث عن الخطاب الديني المُتفتِّح، فهذا لا يعني التَّخلِّي عن الإيمان. بل المقصود هو تقوية هذا الإيمان من خلال إدراكه من طرف الآخرين. ومستوى الإيمان يقترن بالتَّديُّن. والتَّديُّن يختلف من شخصٍ إلى آخر.
ولهذا، فالخِطاب الديني المُتفتِّح يفتح البابَ على مصراعيه لتبادل الأفكار وللتَّحاور البناء le dialogue constructif. بل يكون مبنياً على قبول الاختلاف والرغبة في التَّعلّم من الغير.
وحتى إن بدا إيمانُ شخصٍ من الأشخاص أو جماعة من الأشخاص، معقدا، فتبادل الأفكار والتَّحاورُ البنَّاء يسهلان إدراكَ هذا الإيمان. وهذا هو الهدف من الخطاب الديني المُتفتِّح. بمعنى أن الخطاب الديني المتفتح لا يهدف إلى فرض رؤية دينية أو توجُّهاً دينياً على الآخرين.
بل المقصود هو أن يتفهَّمَ الناسُ بعضُهم البعضَ الآخرَ، وخصوصا، إذا كانوا مُطالبين بأن يتعايشوا في نفس المجتمع. وبعبارة أخرى، أن تُحترمَ الاختيارات العقائدية لكل شخصٍ أو لكل جماعة من الأشخاص.
والخطاب الديني المتفتِّح يدفع المُتَخاطِبين إلى البحث المستمرِّ عن الحقيقة. لكن ليس الحقيقة المطلقة la vérité absolue التي لا يعلمها إلا الله. بل الحقيقية الاجتماعية la vérité sociale التي أجمعتْ عليها فئةُ بشريةٌ معيَّنة أو مجتمعٌ برمَّتِه.
ناهيك على أن الخطاب الديني المتفتِّح، إذا كان، فعلاً، مبنيا على التَّحاوُر وتبادل الأفكار البنَّائين وعلى الصدق la sincérité، فأنه يُلغي أو يتجنَّب ما تعوَّد الناسُ على دمجه في خطاباتِهم اليومية من أحكامٍ مُسبقة préjugés وقيلٍ وقالٍ commérages ونفاقٍ hypocrisie وتنميطٍ stéréotypie…
أما الخطاب الديني المُغلق، فهو الخطاب الذي تمَّ سجنُه في قَفَصِ قواعدَ دينيةٍ معيارية emprisonné dans une cage de règles normatives، التي، غالباً ما يكون مصدرُها ضارِباً في أعماق التاريخ، أي أن هذه القواعد مُستمدَّة من فقهٍ بشري مرَّت على إنتاجه عدَّة قرون.
وعندما أقول "مُغلَق"، فالمقصود هو أن الخطابَ معزولٌ عن الواقع المعاش، ثابت، لا يقبل النقاش، لا يتغيَّر، ولا يتأثَّر بما يجري حوله من أحداث. وبصريح العبارة، يصلح لكل زمان ومكان. لماذا؟
لأن الناس الذين أنتجوه يعتقدون اعتقاداً رأسخاً بأنهم على حق. بل إنهم يزعمون بأن خطابَهم هذا، هو تعبيرٌ عن ما أوصاهم به الله، سبحانه وتعالى. والله، عزَّ وجلَّ، لم يوصِ ولن يوصي أحداً لأنه "غَنِيٌّ عن العالمين". بمعنى إنه، جل عُلاه، ليس في حاجة لمَن ينوب عنه في تدبير الكون، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (البقرة، 117). غير أن علماءَ وفقهاءَ الدين تركوا هذه الآية جانِبا، واعتمدوا على الحديث الذي نصُّه : "الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة شخصًا أو مجموعة من الأشخاص يُجددون لها دبنَها".
مرَّ أكثر من 14 قرنا، أي مائة سنة مضروبة في 14، على وفاة الرسو،ل (ص)، والدين لم يتغيَّر، ليس في ثوابته، ولكن في فقهِه الذي إن كان صالِحاً للماضي، فهو، اليوم، أصبح مٌتجاوزاً، بالنسبة لعصرنا الحاضر.
إن علماءَ وفقهاءَ الدين يعتقدون بأنه بمجرَّد ما يكون شخصٌ ما أو جماعة ما من الأشخاص أو حتى بلدانُ بأكملِها مسلِماً/مسلمين، ينطبق عليهم الفقهُ القديم لمالِك والشافعي وابن حنبل وابو حنيفة وابن تيمية ومسلم والبخاري والترميدي وابن حزم والعسقلاني ومحمد بن عبد الوهاب والغزالي…
ما لم يرد علماءُ وفقهاءُ الدين الحاليين إدراكَه، هو أن الإنسانَ المسلمَ المعاصرَ تقدَّم فكرياً، اجتماعيا، اقتصادياً، ثقافياٍ، علمِياً، تكنولوجياً…،وبالأخص، انفتح على ثقافات الغير ونهل منها ما ينفع البلادَ والعبادَ. ألم يقل، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 13 من سورة الحجرات : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
فكيف أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يدعو الناسَ إلى تعارُفِ بعضِهم على البعض الآخر، وعلماء وفقهاء الدين، القدامى والحاليون، وضعوا حواجزَ فكريةً بين العالم الإسلامي والعوالِم الأخرى؟ هذا، إن لم يعتبرونها كافرة.
وكيف للتعارف الذي نادى به، سبحانه وتعالى، أن يتحقَّقَ، إن لم يتحقَّق بتبادل الأفكار والآراء والثقافات والمعرفة والعلم…؟
وما يُثيرُ الانتباهَ، في الآية رقم 13 من سورة الحجرات، المشار إليها أعلاه، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يخاطب الناسَ، بغض النَّظر عن معتقداتهم الدينية. وهذا يعني أن الله، عزَّ وجلَّ، في هذه الآية يُعطي الأولوية للقيم الإنسانية السامية التي تُتيح التَّعارفَ بين الناس أجمعين. وبالتالي، أليست هذه الآية وآياتٌ أخرى من القران الكريم، تبيِّن بوضوحٍ بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يُفرِّق بين الناس، لا بسبب معتقداتِهم الدينية ولا بسبب أصولهم العرقية ولا بسسب اختلافاتِهم الفكرية ولا بسبب ظروفهم الاجتماعية… بل قال "لِتَعَارَفُوا". و"لِتَعَارَفُوا" يمكن تفسيرُها بكل ما من شأنه أن يُتيحَ التَّعايشَ والتَّساكنَ داخلَ المجتمعات البشرية.
فهل الخطاب الديني المغلق يتلاءم مع "لِتَعَارَفُوا"، وبعبارة أخرى، هل الخطاب الديني المغلق يتيح التَّساكنَ والتَّعايشَ داخل المجتمعات البشرية؟